هذا كل ما لدى الأسد

TT

خطابان أحرجا الرئيس السوري بشار الأسد خلال عقد توليه رئاسة سوريا؛ الأول كان خطاب انسحاب قوات جيشه من لبنان في مارس (آذار) 2005 على خلفية القرار الأممي الذي ألزمه بالخروج الفوري، فاضطر أن يقف أمام العالم في خطاب مطول ليعلن في آخر دقائقه إذعانه لأمر الانسحاب. صحيح أن التأثير السوري في لبنان ليس آلة حربية يمكن أن ينسحب بقرار رقمي، إلا أن وقفة الرضوخ للأمر الواقع لم تكن هينة على نظام شمولي عرف عنه الممانعة.

وما أشبه الليلة بالبارحة..

يقف مرة أخرى بشار الأسد مرغما من الأتراك هذه المرة، وفي الموعد الذي ضربوه له باليوم والساعة، ليعلن وعودا أمام نفس الحشد وبنفس الإخراج والإحراج.

الأنظمة الشمولية سهلة الاستفزاز، لأنها لا تستمد وجودها من قبول شعبي، لذلك تشعر أن بقاءها مهدد، ولذلك أيضا تتجه لبناء نظام أمني منيع وجيش يرعى هذا النظام بالحراسة. وأمام افتقارها للمرونة والقدرة على الانحناء أمام العواصف فهي إما أن تستمر في صلابتها وتصطبر على عنادها وتكابر زمنا طويلا حتى تتهشم، وإما أن تنكسر فورا بفعل الضغط والقوة. وعلى عكس منها، فالأنظمة الملكية في الربيع العربي تعاملت بكثير من الذكاء والتحكم الهادئ، فتفاعلت مع أصوات الناس في حضرة هيبة الدولة، كالسعودية والمغرب والأردن، رغم أنها أنظمة لها جذور تاريخية يدعمها الزمن، وليست انتخابية يفترض أنها مؤقتة لا تعرف الديمومة.

في المجتمع الأكاديمي الذي أعمل فيه تأخذنا النميمة أحيانا عندما نسمع أن نقاش أي قضية أفضى إلى تشكيل لجنة، فنتهامس بأن الموضوع دخل في غيبوبة، لأن اللجان كقاعدة عامة وسيلة بيروقراطية لتأخير الحسم، ولكنها مقبولة في نمط العمل الروتيني في ظل الاستقرار والرفاهية. لا يوجد شيء في حال الطوارئ اسمه لجان دراسة، هذه عبارات نسمعها في سويسرا أو هولندا حيث الحاضر الجميل والمستقبل المشرق، أما في حال القتل والتشريد والترويع والجثث الممزقة والمقابر الجماعية التي نشاهدها كل يوم في درعا وجسر الشغور وحلب فلا يمكن للنظام السليم النية إلا أن يبادر باحتواء غضب الشارع واستيعاب مطالبه وتنفيذها فورا، على الأقل حتى يصدق الناس خرافة أن نية الإصلاح بدأت في سوريا منذ عشر سنوات، أي إن مرحلة اللجان والتدارس انتهت، ولا أحد من هؤلاء المحتجين يرغب في أن يحيا عشر سنوات أخرى في ظل وعود بالتنفيذ. حتى وكالة ناسا لم تحتج لعشر سنوات للتخطيط وتنفيذ إرسال أول إنسان للفضاء.

ما رأيته أن الأسد في خطابه كان يتجرع السم في كل دقيقة من الخطاب، يقدم رجلا ويؤخر أخرى، لا يريد أو لا يستطيع تقديم تنازلات أكبر، هذا واضح. الناس تريد من الرئيس إثبات صدقه بحلول فورية عميقة كبتر أعضاء من نظامه والتضحية بأجهزته الأمنية الشرسة. بمعنى آخر؛ تريد نظاما نظيفا لم يتلطخ بالدماء لتمنحه ثقتها. وعلى الرغم من تنديد المحتجين بحزب الله وإيران أثناء المظاهرات، فإن مطالبهم لم تشمل تغيير سياسة النظام الخارجية، بل كان موقفهم اعتراضا على أولويات النظام التي جعلت بيروت أهم من دمشق، والتحالف مع إيران وحزب الله على حساب القضايا الأمنية في المنطقة، فكانت هذه السياسة مجتمعة مشرطا يجرح في الجسد السوري أمام المجتمع الدولي فضاق الخناق عليه.

المقلق في كل هذا أنه لا أحد يستطيع تخمين معنى نقطة اللاعودة التي يكررها الغرب في موقفه من نظام الأسد، لأن كل العقوبات التي تمشي الهوينى باتجاه هذا النظام تأتي مقابل عجلة سريعة من القمع وسفك الدماء.

مع ملاحظة مهمة جدا، أن ثورة المصريين في يناير (كانون الثاني) الماضي لم تكن دموية لأن الجيش وقف حاجزا بين الشعب الغاضب والنظام الصارم، وفي ليبيا حمل الثوار السلاح للدفاع عن أنفسهم ثم تدخل الناتو في ليلة كانت قوات القذافي على مشارف بنغازي في نية مبيتة لارتكاب مذبحة، وفي اليمن المسلحون أمام مسلحين، وفي البحرين تدخلت قوات درع الجزيرة.

أما سوريا فالوضع مثير للدهشة، الناس تخرج للشوارع لتموت، تخرج كل يوم وليس أيام الجمع فقط وهي تعلم أنها ستموت لأنها بلا سلاح، على الأقل حتى الآن. لذلك ليحذر نظام الأسد ألف مرة لأن الذين يحاربهم لا شيء لديهم يخسرونه، وهي شجاعة قلما نراها، مثيرة لإعجاب المناوئين للنظام، وتستدعي المراجعة من الموالين.