السبيل لتجنب صيف دموي

TT

من أشهر تصريحات هنري كيسنجر قوله «السلام في متناول اليد»، وذلك في أكتوبر (تشرين الأول) 1972، بعد ما بدا أنه إنجاز في المفاوضات الفيتنامية. إلا أن السلام لم يكن كذلك، وإنما استغرق الأمر ثلاثة أشهر لإتمام اتفاق باريس للسلام الذي انهار عام 1975 عندما سيطرت فيتنام الشمالية على سايغون.

ويحمل هذا التاريخ الفيتنامي دروسا تحذيرية من التفاؤل السابق لأوانه حيال الحلول الدبلوماسية لصراعات عميقة، مثل الصراع الدائر في أفغانستان. إلا أن الحقيقة تبقى أنه - مثلما يعلن مرارا - ليس هناك حل عسكري لهذه النوعية من الصراعات. ويكمن التحدي في إقامة حوار بين أطراف تربطها حالة عميقة من غياب الثقة في بعضها بعضا، وتجنب اندلاع حرب أهلية.

وواضح من خطاب الرئيس أوباما الذي ألقاه مساء الأربعاء أنه أقر منطق التسوية السياسية لأفغانستان. ومع مقتل بن لادن، أصبح بإمكان أوباما الآن الإعلان عن أن جوهر المهمة الأميركية الرامية لمحاربة تنظيم القاعدة، تحقق. كما أصبح بإمكانه إعادة بعض الجنود إلى الوطن وتعزيز جهود التفاوض الدبلوماسي مع طالبان للتوصل لاتفاق سلام بحلول عام 2014.

وتسلط استراتيجية أوباما تجاه المفاوضات الأفغانية الضوء على عاملين يمكن أن يمثلا أهمية في التعامل مع الصراعات الفوضوية الدائرة في ليبيا وسوريا، أولهما: يجب أن يجري الحوار تحت رعاية أفراد من داخل البلد المعني الذي يواجه اضطرابات داخلية. قد تشجع الولايات المتحدة الاتصالات، لكن يجب أن تكون العملية «بقيادة أفغانية» أو «قيادة ليبية» أو «قيادة سورية». ثانيا: يستلزم الحوار إطار عمل إقليمي، بحيث لا يضطر المتقاتلون للجوء لمساعدة دول مجاورة تسعى للتدخل.

وجاء التقدم الذي أحرزته الاتصالات السرية الأميركية مع طالبان في جزء منه نتيجة لرغبة الرئيس حميد كرزاي في نجاح هذه الاتصالات، وربما الأهم من ذلك، لدعم كل من الهند وباكستان وروسيا والصين لجهود التواصل بين الجانبين - مع قبول صامت من إيران أيضا. إطار العمل الإقليمي هذا هو السبيل الحقيقي للخروج والذي سيسمح بانسحاب القوت الأميركية.

ودعونا نفكر كيف يمكن تطبيق هذا النموذج الدبلوماسي على ليبيا وسوريا. في كلتا الحالتين، ينظر الغرب إلى المتمردين باعتبارهم «الأخيار»، الذين يحاربون زعماء استبداديين فاسدين. شخصيا، أتمنى أن يتنحى معمر القذافي وبشار الأسد عن السلطة غدا، لكن ذلك لا يبدو من الخيارات القائمة في ذهنهما. وقد أظهر الاثنان استعدادهما لقتل الآلاف من مواطنيهما في سبيل البقاء في السلطة، وتبدو حركات التمرد في البلدين أضعف من أن تزيح القائدين الاستبداديين بالقوة. وربما يبدو خيار التدخل الخارجي مغريا، لكنه لا يؤتي نتائج جيدة في ليبيا، وربما يؤتي نتائج أقل في سوريا.

الهدف الصائب في ليبيا وسوريا (مثلما الحال في أفغانستان) هو تنظيم فترة انتقالية نحو حكومة ديمقراطية شاملة، مع الحد من إراقة الدماء بأقصى درجة ممكنة حتى الوصول لهذا الهدف. أما البديل لمثل هذه التسوية فهو اندلاع حرب طويلة الأمد قد تشهد مذابح بحق المدنيين وحالة تأزم دموية، كما هو واضح الآن، تزيد من زعزعة استقرار المنطقة.

من المقيت التفكير في إجراء حوار مع قائدين مثل القذافي والأسد أيديهما ملوثة بالدماء، لكن هذا التوجه جدير بالدراسة، فربما يتمكن من الوصول بنا لمرحلة انتقالية نحو حكومة ديمقراطية، حيث يتنازل الحكام الاستبداديون عن السلطة لصالح ائتلاف يتضمن عناصر إصلاحية من النظام القديم والمعارضة.

وقد أوضح مبعوث مقرب من حاشية القذافي خلال لقاءات أجريت معه مؤخرا صيغة ليبية لفترة انتقالية، واقترح نقلا تدريجيا للسلطة لحكومة جديدة توحد المجلس الوطني الانتقالي الخاص بالثوار وعناصر من النظام «يمكن التوافق معها». أما القذافي نفسه فسيرحل عن طرابلس ويتخلى عن السلطة، لكن تلك النتيجة ستأتي عبر التفاوض، وليس كشرط مسبق. ورغم تشكك مسؤولي وزارة الخارجية في جدوى هذا الطرح، فإنهم لا يزال بإمكانهم اختبار مدى قدرة المبعوث على الوفاء بما اقترحه.

أيضا، تتسم الحالة السورية بالتعقيد جراء تاريخ للنظام مفعم بالدماء. في خطاب ألقاه الاثنين، اقترح الأسد حوارا وطنيا تنتقي خلاله المعارضة الديمقراطية 100 مشارك لمقابلة ممثلين عن الحكومة والتخطيط لعقد انتخابات ووضع دستور جديد. وبالنظر إلى سجل الأسد المخيب للآمال، تحيط الشكوك بقدرته على الوفاء بذلك.

بيد أنه من المنطقي اختبار قدرته على هذا الأمر، خاصة أن هذه العملية ستثير ذعر زعمائه في طهران. حال فشل الحوار، ستزداد المظاهرات السورية قوة، بينما سيزداد الأسد ضعفا.

ينبغي تعزيز هذه الحوارات الداخلية بدعم إقليمي، مثلما الحال في أفغانستان. ويتمثل الرعاة الحقيقيون لليبيا الآن في جارتيها المنضمتين حديثا للديمقراطية، مصر وتونس، وبدعم من فرنسا وبريطانيا وألمانيا. في سوريا، الوسيط الواضح الآن هو رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، بدعم من الدول الخليجية.

وهنا تحديدا تكمن النقطة المهمة، وهي أنه لا يجب ترك الربيع العربي يتحول إلى صيف دموي، إذا ما توافرت بدائل.

* خدمة «واشنطن بوست»