بوصلة أمل لمصر

TT

القاهرة - بعد مرور قرابة 100 يوم على الثورة، أصبحت مصر مختلفة للغاية عن البلاد التي رأيتها عندما خرج ملايين إلى الشوارع داعين لسقوط نظام مبارك. ورغم وجود مشكلات مختلفة، أصبح الآن هناك طاقة جديدة، أو مثلما يقول المصريون «هواء جديد». وتبقى المسألة الكبرى الآن هي كيفية تحويل هذه الطاقة لصياغة مصر جديدة تنعم بالديمقراطية وقادرة على البقاء سياسيا واقتصاديا.

يكمن العامل المحوري للمضي قدما في بناء الثقة بين أفراد الشعب مع الإطلاق الفوري لمشروع ضخم بارز يأسر ألباب المصريين ويرمز لما يمكن للمستقبل تقديمه. ومثلما كان السد العالي بالنسبة لجيل مضى، يمكن لمدينة العلوم والتكنولوجيا الجاري بناؤها الآن الاضطلاع بالدور نفسه لشباب اليوم الطموح.

في ستينات القرن الماضي، عايشت التأثير الهائل الذي تركته رؤية الرئيس عبد الناصر لبناء السد العالي في أسوان باعتباره «مشروعا وطنيا» للتحكم في مياه النيل لأغراض الري وإنتاج الكهرباء. ومثلما كتب الصحافي الشاب عماد أحمد خلال مقال نشره حديثا بعنوان «جسور مصر» نحو المستقبل، فإن المشروع الوطني في حقبة ما بعد الثورة في مصر يجب أن يتعلق بالتعليم.

وتعي كل أسرة في مصر هذا الأمر، حيث عاينوا بأنفسهم تردي نظام التعليم على امتداد الأعوام الـ30 الماضية التي تمثل حكم مبارك.

ويرى «شباب فيس بوك» الذين أشعلوا الثورة بشكل خاص أن الاهتمام بالتعليم وتحقيق إنجاز على صعيده قادر على إعادة مصر لمكانة دولية مرموقة، يتوافق مع مبادئ وروح حركتهم، والتي يخشون أن تضيع تحت طوفان «السياسات بصورتها المعهودة» التي ترسخت على امتداد الماضي.

ومثلما أوضح عماد، كانت هناك رؤيتان مهيمنتان صاغتا الخيال السياسي المصري على امتداد الأعوام الـ60 الماضية، أولها: الحزب الاشتراكي الذي جاء للسلطة مع ثورة 1952 التي قادها جمال عبد الناصر. وبالنسبة لشباب اليوم، تمثل هذه الرؤية جزءا من الماضي.

في الوقت الراهن، تعد جماعة الإخوان المسلمون أكبر قوة منظمة بالبلاد. ويرى عماد أنهم يمثلون الفترة الانتقالية الراهنة. من منظور تاريخي، يعد الإخوان المسلمون أيضا جزءا من الماضي، حيث تأسست الجماعة عام 1928، حتى قبل عهد عبد الناصر. وتعتمد شعبيتهم في المقام الأول على رسالتهم الدينية الفاعلة ونشاطهم الخيري المنظم، ولمقاومتهم للنظام لفترة طويلة.

وتدرك الحركة الشبابية أن الرؤى القديمة لا يمكنها نقل مصر للمستقبل. لذا فإنه خلال الشهور التي أعقبت الإطاحة بمبارك بدعم رائع من الجيش، حرص الشباب، وبجانبهم قطاع عريض من المصريين العاديين، على الإبقاء على هذه الروح حية عبر الاستمرار في النزول لميدان التحرير أيام الجمعة فيما أطلق عليه «مليونيات». واختاروا لكل جمعة اسما مميزا، مثل «جمعة التغيير» و«جمعة الغضب» و«جمعة التصحيح». وتدور مطالبهم حول ضرورة تمهيد الطريق نحو الديمقراطية عبر إقرار دستور مناسب، والقضاء على نفوذ النظام القديم، وتحقيق العدالة والمساواة. وينتظرون إقرار حلول سريعة تؤدي لتحسن الوضع الاقتصادي.

بعد سنوات طوال من الجمود والديكتاتورية، تبقى الحقيقة أن هذه التغييرات ستتطلب سنوات. بالأمس، أطلقت حملة وطنية لبناء مدينة جديدة للعلوم والتكنولوجيا، في أعقاب تمرير قرار بالإجماع من مجلس الوزراء، وإصدار المجلس الأعلى للقوات المسلحة مرسوما يؤيد فيه المشروع.

وتتميز «مدينة المستقبل» تلك، مثلما أطلق عليها بالفعل، بهيكل إدارة يتميز بالشفافية وتعمل على نحو مستقل تماما عن التنظيم الحكومي. وتم بالفعل تشكيل مجلس الأمناء ويضم ستة من الحاصلين على جائزة نوبل، بجانب رئيس معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتيك) والرئيس السابق لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، بجانب العديد من الشخصيات المصرية البارزة مثل محمد العريان، الرئيس التنفيذي لشركة «بيمكو» الذي قدم تبرعا شخصيا ضخما بالفعل في المدينة، إضافة للسير مجدي يعقوب جراح القلب المعروف الذي يعمل لدى «إمبريال كوليدج» في لندن.

ومن غير المثير للدهشة أن نجد استقبالا حماسيا للمشروع من جانب الرأي العام. من جانبه، قال إبراهيم عيسى، الصحافي البارز وأحد قادة مظاهرات التحرير: «هذا أهم إعلان صدر منذ الثورة». وأعلن أحمد المسلماني، المعلق التلفزيوني البارز، أمام الملايين من مشاهديه أن المشروع «السبيل الوحيدة للانضمام للعالم الحديث».

على مدار 12 عاما، منذ تقلدي جائزة نوبل، عملت جاهدا على إطلاق هذا المشروع، لكن في كل مرة كنت أحبط من البيروقراطيين المفتقرين إلى الرؤية ومن تجاهل مبارك. إلى أن جاءت الثورة لتبث روحا جديدة في المشروع.

ونهدف من وراء المشروع إلى بناء مؤسسة تعليم عال غير هادفة للربح تعتمد على الكفاءة، وليس الواسطة، ويمثل نموذجنا مزيجا من «كالتيك»، وهي مؤسسة تربطني معرفة بها منذ أكثر من 30 عاما، ومعاهد «ماكس بلانك»، ومعهد «تيك بارك» التركي. ويتمثل هدفنا في تنشيط إنتاج معرفة جديدة من قبل العرب وجلب العلوم والمعرفة الجديدة للسوق والمجتمع داخل حقبة الصحوة العربية التي نعيشها. ونرمي إلى إثبات أن «مصر تستطيع»، وهذا الأمر وحده سيترك تأثيرا هائلا على استعادة الشعور الوطني بالعزة.

ورغم المصاعب الاقتصادية الراهنة، قرر المصريون الاستثمار في المستقبل بأراض ومبان بقيمة تبلغ مليارات الدولارات. وفي غضون أسابيع، نجحنا في جمع أول 100 مليون دولار تقريبا من حملتنا الرامية للحصول على مبلغ ملياري دولار بما يضمن النجاح على المدى البعيد للمشروع واستقلاليته.

ونأمل في أن يخلق المجتمع الدولي - الدول الخليجية ومجموعة العشرين ومجموعة الثماني (التي تعهدت بتوفير 20 مليار دولار خلال قمة دوفيل) - شراكة حقيقية مع مصر للاستثمار في تعليم شبابها بحيث يمكن تعزيز مكاسب المنطقة والعالم. وتبدو مكاسب ذلك لجميع الأطراف واضحة إذا ما تمكنت هذه المنطقة ذات الأهمية الكبيرة للعالم أخيرا من تحقيق تقدم وتنمية.

عندما يحقق المصريون حلمهم في الديمقراطية والتنمية المستدامة، سيكونون قد قطعوا بذلك شوطا كبيرا نحو فتح سوق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي يقترب عدد سكانها من 400 مليون نسمة، أمام النشاط التجاري.

إن الاستثمار في التعليم والرخاء الاقتصادي هو السبيل الأمثل للشفاء من التعصب وبناء شرق أوسط سلمي وعادل. وقطعا ستمثل مؤسسة مثل مدينة العلوم والتكنولوجيا مركزا للتنوير والتعاون العالمي.

والملاحظ أن الثورة المصرية لم تحمل آيديولوجيا سوى التغيير السلمي، وأظهرت بجلاء أن التأكيدات بأن المسلمين والعرب عاجزون عن المشاركة في العالم الحديث أو أنهم في صراع عنيف مع الحضارة الغربية لا أساس لها. مثل أي مكان آخر في العالم، تتطلع شعوب الشرق الأوسط نحو الحرية والعدالة، وتأمل في حياة أفضل وتعليم جيد لأطفالها.

بعد أكثر من 50 عاما من دعم الأنظمة الاستبدادية غير الديمقراطية في المنطقة، لا شيء يمكنه كسب قلوب وعقول المصريين الآن أكثر من الدعم الحقيقي لهذا الجسر الملموس نحو المستقبل لشعب حرر نفسه بنفسه بكرامة وتحضر.

* عالم مصري حائز جائزة نوبل للكيمياء 1999

* خدمة «غلوبال فيوبوينت»