رحمهم الله جميعا

TT

الشيخ (علي الطنطاوي) رحمه الله يذكر كيف انطلق مع مجموعة من دمشق للذهاب إلى الحج في أربع سيارات عام 1934، ويصف المشقة والمعاناة التي تكبدوها طوال تلك الرحلة، والتي لا مجال لذكرها.

ولكنه يقول إنهم أجلوا انطلاقتهم لمدة عشرة أيام لتطول لحاهم، لأنهم سمعوا أن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تمسك من كان حليق اللحية.

وفي اليوم الثاني من رحلتهم يقول: دخلنا في قاع مستو، وتوقفنا للمبيت، وأوقدنا (اتاريكنا) فاستحال القاع إلى قرية صغيرة، وكانت ليلة أنس ومسامرة، تعشينا وشبعنا، وأكلنا حلوى الشام، وسمعنا من الراديو أغاني عبد الوهاب وأم كلثوم.

وبعد أيام وصلوا إلى تبوك، وذهبوا للسلام على الأمير، ويقول: في أثناء مجلسنا طلب الأمير بصوت خفيض قهوة، وكان على بابه جمع من الخويا، فصاح من على الباب - قهوة، وسمعنا من الخويا خمسة وخمسين: قهوة، قهوة، هوة، هوة، وه، وه... تخرج متعاقبة متلاحقة، كأنها طلقات مدفع رشاش، خرجت كلها في 43 ثانية، فارتعبنا، ولم نعرف الحكاية، وفعلت المفاجأة بنا فعلها، فمنا من أسرع يطلب الباب، ومنا من صرخ، ومنا من سقط على الأرض، ومنا من وضع يده على سلاحه، والأمير يضحك، قد راقته هذه الدعابة، ونظر إليّ كالمتسائل، فقلت: ما هذا؟ لقد حسبته - غزوا - قال: لا، قد أمن الله هذه البلاد بعبد العزيز آل سعود، فلم يبق فيها غزو، ولا ما يشبه الغزو، ولكنها طريقتنا في طلب القهوة.

وفي جدة زاروا (محمد نصيف) الذي يعتبره قاموسا وتاريخا ناطقا، ولديه في داره مكتبة من أكبر ما عرفت من المكتبات، ويقول: ما كنت أزوره مرة إلا وأجد عنده بعض أهل الفضل من المملكة أو من مصر ومن الشام ومن العراق ومن المغرب أدناه وأقصاه، كان له في كل بلد إخوان وأصدقاء، كانت داره فندقا، لكنه أرخص الفنادق، لأن الأكل فيه والنوم بلا شيء.. وجدت عنده مرة رجلا على الغداء، فلما عدت بعد أسبوعين وجدته، ثم وجدته بعد شهر، فقلت له: من هذا الرجل الذي أراه نازلا عندك؟ فقال: رجل طيب عرفته في بعض أسفاري إلى لبنان، يبدو أن له أعمالا هنا، لا أعرف اسمه.

وقد ذهبوا لزيارة الملك عبد العزيز في مكة، ويصفه قائلا: كان طويلا عريض المنكبين، إن مشى مع الناس ظهر كأنه راكب وهم مشاة من شدة طوله، وكان أكله مع ذلك قليلا جدا، كان رجلا من أفذاذ الرجال، ذكاء فطري يصغر أمامه كبار الأذكياء، وفكر نير يطوي أفكار العلماء، وقدرة نادرة على سرعة الفهم، والقدرة على الإفهام، تواضع ولين حين يحسن اللين، وشدة حين لا ينفع إلا الشدة، وقد لاحظت أن الملك يحفظ كثيرا من الأحاديث، ومن أقوال الأئمة، وقد يشترك بعض الحاضرين فلا يمنعهم، ومنهم من يعارض رأيه، فيناقشه الملك، ويفرع أوجه الرد فيقول: أولا وثانيا وثالثا، ويقيم أمامه ستارا من الحجج والأدلة... أقمنا بمكة أسبوعين نزور مجلسه كل يوم - لقد كان أحد عباقرة التاريخ.

رحمهم الله جميعا.

[email protected]