أفكار قديمة خائبة تعود مرتدية ملابس جديدة

TT

ربما يكون من المفيد أن تتنبه النخبة الثورية في مصر، إلى أن الأسباب التي أدت إلى نجاح الثورة في الإطاحة بالنظام السابق في مصر، ووضع حكومته كلها تقريبا في ليمان طرة، هي بذاتها الأسباب التي أدت إلى فشله في الدفاع عن نفسه ومن ثم تهاوى صريعا على الأرض في لحظات. والآن هناك اعتقاد يسود الجميع تقريبا هو أنه لم يتغير شيء جذريا في مصر وأن كل المسؤولين عن مرافق الدولة لم يتغير منهم أحد. الواقع أن هذا الاعتقاد ليس وثيق الصلة بما يحدث في مصر من تغيرات، وإنما هو نابع من أرضية النظام السابق الثقافية والفكرية. كل مجتمعات الدنيا في كل مراحل الدنيا تستند إلى مجموعة خاصة من الأفكار والمفاهيم هي وليدة ظروف ما، غير أن هذه الأفكار يحدث لها بفعل الجمود نوع من تصلب الشرايين فيوقف مسيرة الناس وربما يدفعهم للسير إلى الخلف ببطء غير محسوس. هي أفكار كانت صحيحة في مرحلة ما، وصحيحة هنا بمعنى أن اعتناقها والعمل بموجبها في مرحلة ما كان يمثل ضرورة حياتية بالفعل للتقدم والدفاع عن الذات، غير أن نفس الأفكار تكون في مرحلة لاحقة طريقا مرصوفا للذهاب إلى الجحيم، وما أفظعه من جحيم، جحيم الدنيا، الفساد والفقر والجهل والمرض وما ينتج عنها جميعا من جرائم لا يمكن حصرها.

منذ خمسين عاما، كانت هناك قوتان عظميان على الأرض، أميركا والاتحاد السوفياتي، كلتاهما كانت تعيش في حالة استعداد دائم في انتظار اللحظة التي تفتك فيها إحداهما بالأخرى للاستيلاء على مستقبل الكرة الأرضية. كان من الطبيعي أن يكون لكل قوة أتباع وحلفاء وأصدقاء وعملاء، وكان من البديهي أن تكون النظم العسكرية الثورية «صديقة» للاتحاد السوفياتي وهو ما يحتم أن تعتنق حكوماتها ونخبها المثقفة ترسانة من الأفكار الأساس فيها هو معاداة أميركا والغرب الإمبريالي والصهيونية العالمية التي ستفتك بها عما قريب في أول فرصة سانحة، ولما كان هؤلاء جميعا أعداء بعيدين، كان لا بد من أعداء قريبين منا، فكانت «الرجعية العربية»، والتي كانوا يقصدون بها المملكة العربية السعودية وبقية دول الخليج، تستطيع أن تضم لهم تونس ليس لأن رئيسها الحبيب بورقيبة إمبريالي بل لأنه ضد الأنظمة العسكرية. يا لها من أيام، تمتلئ بالغضب والكراهية فتتلفت حولك باحثا عن شخص أو دولة ليست صديقة للإمبريالية العالمية فلا تجد، غير أنك كثوري أصيل لا تعرف اليأس، ستخوض معركة ضد دار نشر أميركية، فيلم أميركي، ممثلة يهودية أو ضد زجاجة كوكاكولا عندما تشعر بشدة الحر، وهذا هو أضعف الإيمان.

قال لي كاتب مسرحي ثوري كبير، رحم الله الجميع: بهذه الطريقة سنفقد هويتنا وخصوصيتنا، أليست لدينا مشروبات وطنية؟ ما له العرقسوس..؟ ما له الخروب..؟ ما له التمر هندي..؟ لازم يعني الكوكاكولا والبيبس؟

في تلك الأيام حكم على زميلنا الناقد علي شلش رحمه الله بالسجن الذي خرج منه بعد ثلاثة أعوام غادر بعدها مصر وسافر إلى لندن ليعمل هناك. كانت الجريمة التي ارتكبها هي أنه حضر اجتماعا لأدباء كان من بينهم شاعر سعودي. بعد ذلك بأعوام قال القاضي الذي نظر قضيته لأحد أصدقائه: ما عرفتش أبرأه... ده جاي لي معترف بأنه اشترك في خمس محاولات لاغتيال عبد الناصر.

الواقع أن الدولة في ذلك الماضي البعيد حققت انتصارات عدة من هذا النوع.

قبل أن تشعر بالضجر من حديثي عن الماضي أقول لك: أفكار الماضي الخائبة بمفرداتها تطل الآن على عقول المصريين من خلال الشاشات الصغيرة وكلمات الصحف غير المسؤولة، كاتب كبير قال في أحد البرامج واصفا بعض الجماعات المتطرفة الذين قاموا في الآونة الأخيرة ببعض الحوادث المزعجة: لا.. هم ليسوا سلفيين.. هم وهابيون.

كان استخدام هذه الكلمة في الماضي البعيد وظيفته هو شحن الناس بالكراهية والعداء، ثقافة الماضي كانت تحتم ذلك، نحن لا نناقش بحثا تاريخيا في قاعة تابعة لإحدى الأكاديميات، نحن نتكلم مع بشر في حالة حيرة وإجهاد عصبي شديدين، وعلينا أن نحترس من الكلمات التي تشبه السهام الطائشة، إن خطورة السهم المنطلق هو أنك تعجز عن استرجاعه، واستخدام هذا النوع من الكلمات يصيب العلاقات المصرية السعودية على مستوى الشارع بخطر جسيم، لا السعوديون في حاجة إليه ولا المصريون في حاجة إليه ولا أحد في حاجة إليه.

مرة أخرى يلجأ روائي شهير إلى التفاسير الجاهزة «هؤلاء المصريون سافروا إلى السعودية وهناك تأثروا بقراءة أخرى للإسلام واكتسبوا طرقا في التفكير والسلوك لا نعرفها نحن»، وماذا عن المصريين الذين ذبحوا ومثلوا بجثث حوالي ستين سائحا يابانيا في معبد حتشبسوت في الأقصر، وماذا عن هؤلاء الذين حاولوا قتل نجيب محفوظ.. هل سافروا وعملوا في السعودية فتأثروا بالقراءة الوهابية للإسلام؟ المشكلة أعقد من ذلك بكثير.

أما الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح المرشح المحتمل لرئاسة مصر، فعندما سئل عن برنامجه الانتخابي، أجاب: تحرير إرادة مصر فلا تكون مرهونة لأميركا والصهيونية ودول الخليج.

لا بد أنه كان يتكلم عن مصر أخرى غير تلك التي نعرفها.. ياه.. ودول الخليج؟

هذه هي مشكلة خوض المعارك السياسية بمفردات عصر سابق وما تحدثه من فساد في عقول الناس. غير أن مقولته تعطيني الفرصة لكي أصحح خطأ شهيرا متهم به - أو معروف به - النظام السابق، أقول بكل وضوح: لم يحدث في الثلاثين عاما الماضية أن تمكن أحد من تقييد أو التدخل بالسالب في إرادة الحكومة المصرية، بل أغامر فأقول: والله كانت حكومة الرئيس السابق مبارك هي أكثر الحكومات المصرية حرية في النصف قرن الأخير، وأنا أتحدى أي مخلوق، أن يقول إنه نصح مبارك نصيحة وأخذ بها على غير ما خطط له من قبل، أو إنه قام بتغيير سياسة ما من سياساته بعد تدخل من أي دولة أخرى.. لقد كان جاهزا طوال الوقت بأسلحة فتاكة، هويتنا.. خصوصيتنا.. سيادتنا..

لقد تسلم مصر «مقشّرة» جاهزة للانطلاق نحو مستقبل مزدهر، العالم كله كان يساعدنا إكراما للسادات وما أنجزه من سلام، ثم عزمه على المضي قدما في طريق الحرية السياسية والاقتصادية، لم يكن الوادي يعاني من أي مشكلات من أي نوع غير أن مبارك بإرادته الحرة وبغير تدخل من أحد أدخل مصر في دائرة الفاقة والعوز. المرة الوحيدة التي تدخل فيها أحد لكسر إرادته كانت فقط في ميدان التحرير. لقد أراد مبارك ورجاله الثرة والسلطة والسطوة والانفصال عن دنيا المصريين فكان لهم ما أرادوا.