ثورات أم استبدال للنخب؟

TT

لم تبلغ التحولات التي شهدتها البلدان العربية منذ نهاية العام الماضي مستوى الثورة بتعريفها العلمي الدارج، فالثورة هي عملية تغيير شاملة للنظامين الاجتماعي والسياسي، وإقامة نظام جديد مختلف تماما، ولذلك هي كثيرا ما تتسم بالعنف لأنها تنطوي على القضاء معنويا وجسديا على أعضاء النظام القديم بقدر من العنف والغوغائية، واستبدال ببنية هذا النظام وطبقاته بنية وطبقات جديدة وبشعارات جديدة تماما. ما حصل حتى الآن في المنطقة هو أنصاف ثورات، وهذه المقارنة لا تعني أن ما حصل ليس مهما، أو أن الثورة بذاتها هي الغاية، بل تعني أن استسهال إطلاق كلمة الثورة هو استسهال إعلامي لا يعني بالضرورة أننا أمام تغيير شامل.

ففي البلدان التي تحقق بها نجاح كبير، كان هذا النجاح يتمثل بإزاحة رأس السلطة القديمة وملاحقة بعض رموزها الأكثر ضلوعا في الفساد، ولكن عملية الانتقال نفسها تدار من قبل مؤسسات وشخوص كثير منهم كانوا جزءا من تركيبة مؤسسة الحكم، ولكنهم نجحوا في القفز عند الوقت المناسب من المركب القديم المتآكل ليتولوا دورا رئيسيا في السيطرة على المركب الجديد. رأينا الجيش في مصر وتونس يلعب دورا حاسما؛ أولا في ضمان نجاح الهدف المعلن للانتفاضات الشعبية وهو تنحي رأس السلطة وعائلته والرموز المقربين منهما، وثانيا بضمان أن تجري العملية بأقل قدر من الفوضى والعنف والأعمال الانتقامية ولا تؤدي إلى إبادة الطبقات التي ارتبطت أو استفادت من النظام القديم، وثالثا لضمان القيام بدور رئيسي في إدارة عملية التحول بما يؤكد الهدفين السابقين ويفرمل الجنوح «الثوري» بحيث لا يتحول التغيير إلى ثورة.

إننا هنا أمام عملية استبدال للنخب، وهي مرحلة أكبر في التغيير من استبدال رأس السلطة، وأقل من الثورة، إنها حالة توسط بين ما يريده القطاع الاجتماعي الذي ارتبط أو استفاد من النظام القديم أو لم يتضرر منه كثيرا، وما يريده القطاع الأكثر تضررا من ذلك النظام وأساليبه، وأقصد هنا بالضرر أنه قد يكون ماديا أو معنويا. من هنا وكما مع أي عملية تغيير من هذا النوع وأي مرحلة انتقالية تنطوي على اللايقينية، نرى صراعا متواصلا بين من يريدون فرملة التغيير ووضع حدود واضحة له بما يوقف قدرته على تهديد تلك القوى والمصالح والنخب التي تتشبث بمواقعها السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو التي تخشى الفوضى واحتمالاتها الكارثية، وأولئك الذين يريدون مط حدود التغيير لتشمل كل تلك القوى ولتهدم كل ما تبقى من أسس وشخصيات وأساليب ومؤسسات النظام القديم، وبالتالي إطلاق نظام جديد مختلف تماما، جذره الأساسي يتمثل بنقضه للنظام القديم. وكلما اشتد الصراع بين الطرفين تعقدت مسؤولية المؤسسة التي تتولى قيادة المرحلة الانتقالية والقوى المتحالفة معها، لأن موقعها كمؤسسة وسيطة يصبح مهددا ويغدو من الصعب عليها أن توفق بين تيارات الضغط المتعارضة التي تسلط عليها، أما قيامها بالانحياز التام والصريح لأحد الطرفين فإنه سيفقدها الكثير من شرعية قيادة المرحلة الانتقالية المستندة إلى ضمان أن يحصل تغيير، وضمان أن لا يكون التغيير عنيفا وانتقاميا. فإن قررت أن تكون ضد التغيير، فسيحولها ذلك إلى هدف للتيار الثوري، وهي إن فعلت ذلك من دون امتلاك القدرة الكافية للتعامل مع تداعياته فإنها ستفقد السيطرة على الوضع بعد أن تكون قد فقدت شرعيتها تلك. أما إن انحازت للتغيير الجذري فستخسر كل القوى الاجتماعية المحافظة، وربما بعض القوى الخارجية المهمة وسيغدو من الصعب عليها ضمان أن لا يطالها التغيير.

لذلك؛ بافتراض الحالتين المصرية والتونسية كمعيارين لتغيير صحي (حتى الآن)، فإن نجاح المؤسسات القائدة للعملية الانتقالية بتحقيق انتقال سلس ومقبول من الغالبية، لن يكون بأي حال إجماعا في البلدان العربية التي جرى بها التغيير، بل عليها أن تتعلم التعايش مع الاختلاف وأن تنسى فكرة الإجماع، فإن ما سيجري هو عملية استبدال للنخب وللأساليب وليست «ثورة»، إنها مرحلة تكاد تقترب أو تبتعد من الثورة بحسب مزاج المرحلة الانتقالية وقدرتها على ضمان قدر عال من السلام. إنها عملية تقوم على افتراض أن كل الكادر القيادي القديم بشخوصه وأساليبه ورموزه لم يعد صالحا، بل إنه بلغ مستوى من الفساد والانقطاع عن الجمهور بما لم يبق له أي مستوى من المصداقية والجدارة والمقبولية، غير أن التغيير لن يشمل الطبقات الأخرى من النظام، ولن ينطوي على تغيير للنظام الاقتصادي، كذلك الذي أحدثته الثورة الروسية مثلا، أو للهرمية الاجتماعية، كذلك الذي أحدثته الثورة الفرنسية مثلا.

استبدال النخب يعني بعث الشرعية من جديد عبر السماح لقوى اجتماعية كانت غائبة أو مغيبة بالصعود السياسي مقابل التزامها بشروط معينة للممارسة والسلوك وعدم اصطدامها بالبنى الأكثر رسوخا للوضع القائم. إنها عملية دقيقة أيضا من حيث إنها يجب أن تضمن أن تكون هذه النخب جديدة بما يعطي الانطباع بأن التغيير قد تحقق فعلا، وأن تكون في نفس الوقت ليست ثورية وذات أجندة تغيير عميق بما يضمن أن لا يؤدي صعودها إلى «إخلال» كامل للمعادلات والتوازنات القائمة. وتحاول بعض القوى الإسلامية، مثل «الإخوان» في مصر، طرح نفسها كنموذج لهذه القوى الجديدة. يجسد ذلك تماما طبيعة المرحلة الانتقالية بوصفها مرحلة إدارة سلمية للصراع بين القوى الثورية والقوى المحافظة، تحصل بموجبها تسويات ترضي الكثير من القوى المحسوبة إلى جانب التغيير، دون أن تؤدي إلى خسارة القوى المحافظة كل ما تمتلكه، وإذا كانت الأخيرة قد أقرت بأن عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الحراك الجماهيري باتت مستحيلة، وأن التضحية ببعض قيادات النظام ورموزه بات أمرا لا مناص منه، فإنها ستسعى إلى منع التغيير من أن يطال النظام الاقتصادي والعناصر الجذرية لتلك القوى.

ومن الخطأ تصور أن القوى المحافظة باتت ضعيفة وبلا أوراق، بل هي تمتلك الكثير من الأوراق، وقد بات ارتباط الأنظمة القديمة ببعض الجماعات التكفيرية واضحا ويمكن القول إن إنعاش تلك الجماعات وبرامجها هو أحد أسلحة ضرب النزوع الثوري للمجتمع، وإغراق المجتمع بالفوضى وتحريك مخاوف الأقليات وإعطاء شرعية للوسائل العسكرية مجددا لتقوم بضبط الأمن، وكل ذلك سيكون على حساب الأجندة الثورية. بالطبع إن هناك أوراقا أخرى مهمة قد تلعبها أطراف خارجية لا تريد التغيير عبر النمط الثوري وتميل إلى «ديمقراطية تعيد إنتاج المعادلة القديمة»، على الأقل على صعيد السياسة الخارجية، ومن بين هذه الأوراق هي المساعدات الخارجية.