كلمات (مبعثرة)

TT

يؤكد الأستاذ (أنيس منصور) أنه يستيقظ من نومه كل يوم في الرابعة صباحا - هذا إذا نام - ويظل في مكتبه يقرأ ويكتب إلى العاشرة صباحا، وبعدها يخرج من منزله ليمارس حياته الاعتيادية كخلق الله المحترمين.

ولا شك أنني أحسد الأستاذ أنيس على برنامجه العملي هذا، وهو برنامج لا يستطيع أن يفعله إلا من أوتي حظا عظيما من الإرادة و(السيمتريّة).

ورغم أنني لا أضع نفسي في خانة المبدعين؛ لا عن تواضع، ولكن عن حقيقة مؤكدة، فإني أدرى الناس بنفسي التي تتأسى بالحكمة القائلة: (رحم الله امرءا عرف قدر نفسه).

أعود لبرنامجي اليومي الذي ينازعني وأنازعه آناء الليل وأطراف النهار، وقد حاولت جاهدا أن أكون تلميذا نجيبا وأجعل الليل لي سباتا والنهار معاشا، ولكن دون جدوى.

فمشكلتي المقلقة التي تكاد تدمر حياتي، أنني لست مقتنعا أن اليوم الواحد لا يزيد على 24 ساعة فقط.. فعلا إنها كارثة مركبة بالنسبة لي، لأنني أريد أن أأكل وقتي وأأكل كذلك أوقات غيري.

فالأربع والعشرون ساعة المحدودة تلك لا تقنعني ولا ترضي غروري، إلى درجة أنني أصبحت نهما إلى أبعد الحدود، (فعفست) النهار على الليل، وقلبت كل الموازين (البيولوجية)، فأسهر مثلا في الواحدة ظهرا، وأفطر في العاشرة مساء، وتبدأ غزواتي مع (وطاويط) الليل في الثالثة فجرا، فلا ليلي ليل، ولا نهاري نهار.

أعرف تماما أنني إنسان (مبعثر)، ومكتبي ما هو إلا عش طائر قلق ونزق ومتمرد ومهاجر إلى الشمال والجنوب في آن واحد.

لم يذبحني من الوريد إلى الوريد غير سلطان الغرام الشبق، الذي كلما حاولت (دفشه) وإزاحته عن طريقي، تسلط هو علي أكثر وأنشب مخالبه في عنقي، وجعل عيني تخرجان من محجريهما وتذرفان الدمع الغزير. ولو أن جميلات العالم كلهن اجتمعن في امرأة واحدة لاصطفيتها وارتحت بعد ذلك، وذهبت بعدها أضع رأسي المتعب على الوسادة وأنام قرير العين ومبتهج الضمير، ولكن هيهات هيهات أن يكون لي ذلك، لأنني أعرف أن وراء ذلك وقبله (خرط القتاد) وصليل السيوف.

ونظرا لمرضي المستعصي والمستوطن كل خلية من خلاياي، قررت طائعا أو مجبرا التخلي عن ساعة معصمي، وأكره ما أكره الآن أن يطلب أحد مني أن أقابله في الساعة الفلانية، و(سموني ما تسموني)، إن أردتم أن تعتبروني (بوهيميا) فلي الشرف، أو (حونشيا) فلي شرفان، أو (خارج الأعراف) فلن تبتعدوا عن قول الحقيقة.. الشيء الوحيد والمؤكد الذي أفتخر به، أنني رغم نقاط ضعفي، فإنني لست مؤذيا لأحد غير نفسي التي (أمون) عليها.

لا أدري ما الوقت الآن الذي أكتب فيه هذه الكلمات المبعثرة، غير أنني الآن أسمع زقزقة العصافير من خلف النافذة، وهناك احتمال أنها في الفجر تريد أن تغادر أوكارها، أو أنها في وقت الغروب تريد أن تعود إلى أوكارها.

وصبّحكم، أو مسّاكم، الله بخير.

[email protected]