في زمالة عظماء فرنسا

TT

في الطائرة إلى مونتريال، قبل سنين، كان الجالس إلى جانبي يقرأ «ليون الأفريقي». ولم أتمالك نفسي عن مقاطعته قائلا: «هل تعرف أن المؤلف كان زميلي؟». وتبسم الرجل: «لا شك أنك محظوظ». وأمام دار الأوبرا في سالزبورغ وقفت أتأمل ملصق الحفل ذلك المساء، وتوقيع المؤلف، الهر أمين معلوف، وكنت أقول للمتجمعين معي: «إن المؤلف صديق قديم». ثم أنتظر ردة فعلهم لكي أرى إن كانوا يصدقونني. فحتما لا يبدو علي أنني من أصدقاء مؤلفي الأوبرا التي تقدم في مدينة الموسيقى.

عندما أعلن انتخاب أمين معلوف عضوا في الأكاديمية الفرنسية، أرفع وأعرق مؤسسة أدبية في فرنسا، تطلعت حولي أريد أن أقول للجالسين إنني أعرف هذا الرجل منذ أربعة عقود، من يوم كنا نمازحه عن سيارته الفولكس فاغن التي كان لونها أحمر ذات عقد. وأنا أعتز بصورة خاصة بأمين المعلوف، لأنه مذ دخل مكاتب «النهار» في الثانية والعشرين من العمر، وجلس إلى طاولته الحديدية قبالتي، توقعت أنه سوف يكون يوما، مبدعا ما. طبعا لم أتوقع جائزة غونكور. والأوبرا في سالزبورغ. ولا حتما الأكاديمية الفرنسية. لكن من كتاباته، على ورق مدرسي مربع، ومن أسطر وكلمات مصححة مثل أيام المدارس، أدركت أن صاحب هذا الأسلوب الرائع، سوف يكون كاتبا عربيا متفردا، موهبة وثقافة وكذا. بعكس احترافنا نحن، وإرسال المقال إلى المطبعة دون قراءته. كان أمين يحاور مقاله، ثم يتأمله مثل لوحة، ثم يمر عليه بالحبر غير الجاف، ثم يعود، ثم يصحح، وبعد عناء طويل يسألك: «هل تعتقد أن هذا معقول»؟

مثل كل صاحب موهبة عظيمة، كان متواضعا وشغوفا. وعندما جمعتنا باريس أوائل الحرب اللبنانية، ذهب يعيش مع رشدي وطارق وزياد، وهم أطفال بعد، في حارة غير القادرين. وربما منذ ذلك اليوم حلم بالوصول إلى حارة الأكاديمية على السين، أو ما يعرف بـ «برلمان الحكماء»، المدرسة التي أسست على غرار مدرسة أفلاطون الأولى في أثينا، آلهة الحكمة عند اليونان.

لا يتقبل قدر البشر التمني المتأخر. لكن لو عاش رشدي المعلوف، ألمع صحافيي لبنان في الستينات، لكان الوحيد الذي يصدق أن ابنه صار عضوا في أكاديمية عظماء فرنسا. كان يحكي عن «أمين» وكأنه واثق من أنه سوف يتجاوز، ذات يوم، آفاق لبنان وثرثرات بيروت. كان يسألني، سرا، عن عمل أمين، فأقول له: «أستاذنا. اهتم بنفسك. أمين سوف يتجاوز الجميع». وكان يهز رأسه ضاحكا. إنه يعلم ذلك.