بقايا كل شيء!

TT

فجأة وجدت نفسي وحدي.. كل من كان وما كان معي قد اختفى.. تلاشى فجأة.. خرج من الباب أو من النافذة.. لا أعرف. فقد امتدت يد الظلام وسحبت المصابيح والمقاعد والمناضد.. وكل ما بقي هو طراطيش كلام في أذني.. وبقايا روائح وعطور وعرق وسجائر وزكام في أنفي.

وفي الظلام تلمست طفاية سجائر كانت أمامي.. فيها بقايا سجائر طويلة أطفئت بسرعة.. وسجائر أطفئت على مهل.. وسجائر سحقتها أصابع عصيبة.. عليها أحمر شفاه.. عليها نار وليس لها دخان.

هذه السجائر التي أمامي أعرف كيف لقيت مصرعها واحدة واحدة.. هذه السجائر الطويلة رأيتها وهي تموت في شبابها.. رأيت يدا غليظة تدفنها حية.. إنها سيجارة صديقي الذي مالت عليه زوجته تهمس في أذنه.. وكلما تعالى الهمس زاد ضغط أصابعه على هذه السيجارة الطويلة.. لقد أنكر أنه يعرف من الذي طلبه في التليفون عدة مرات ولم يشأ أن يرد عليه أو عليها.. ولكن زوجته مصرة على أنه يعرف وأن التي طلبته هي زوجته السابقة وأنها رأتها منذ أسبوعين قريبة من البيت وأنها سمعت وأنها وأنها.. وتحطمت السيجارة تحت أصابعه.. خنقها.. وأدها.. كما كان يفعل العرب في الجاهلية!

وهذه السيجارة تركها صاحبها تشتعل دون أن يقربها.. إنه يجد لذة في تعذيب الآخرين.. يراها ولا يلمسها.. يحرقها ولا يطفئ نارها. لقد أخرجها من جيبه بأناقة وأشعلها بعناية.. وتركها هناك بهدوء وراح يتفرج عليها بلذة.. إن صديقي هذا يحاول الإقلاع عن التدخين.. لذلك فهو يشتري السجائر ويشعلها ولا يدخنها.. وإنما يضعها على حافة الطفاية.. على حافة الهاوية - إنه تعب من التدخين.. إنه كالرجل الذي تعب من اللهو.. فهو يتفرج بلذة المنتقم الشامت. وهو يحاول أن ينتقم من مئات الألوف من السجائر التي لسعت شفتيه وأحرقت حلقه ومزقت صدره.

وهذه السيجارة دخنها صاحبها بسرعة.. وأشعل منها سيجارة أخرى.. إنها «بزازة» في فم طفل يرضع الهواء.. يموت إذا ابتعدت عن فمه.

وهذه السيجارة عصا يتوكأ عليها الكلام عندما يخرج من فم هذا الصديق.. إنه لا يتكلم إلا وهي في فمه.. إن كلامه دخان في الهواء.. أو دخان كلام في الهواء.

لا أعرف ماذا كنا نقول.. تكلمنا كثيرا.. ولكن ماذا قلنا؟!