قف بالمعرة واستوح وجهها التربا

TT

انصب تفكيري على السوريين خلال الأيام القليلة الماضية، نظرا للأحداث المريرة التي تشهدها البلاد. وفكرت في الآلام التي عاناها السوريون، ومواجهتهم مع الدبابات والقوات والرصاص. وكنت أعكف على البحث عن جذور مدينة المعرفة. كانت تسمية مدينة المعرة مثارا للجدل واختلف الباحثون في أصل لفظة المعرة، فلفظة المعرة (لغة) تعني الإثم والدية والجناية والمصيبة والشدة، والمعرة كوكب في السماء دون المجرة، والمعرة قتال الجيش دون إذن الأمير!

ويبدو لي أنه في هذه الأيام أصبحت جميع هذه المعاني مختلطة ببعضها البعض بصورة ما، حيث امتزجت بلاد بشار الأسد وشعبه بتوجهاته التي تعود بالدمار على الذات. إنه رجل يفتقر إلى الرؤية، لكن ربما جانبني الصواب في هذا الرأي، ذلك أنني أحيانا يخالجني شعور بأن بشار يعشق سوريا. وبذلك أجد في ذهني رأيين متعارضين يتناحران. وبالمثل، يقف ماهر الأسد، الجزار، وبشار، طبيب العيون، في موقفين متباينين للغاية. وبينما يقتل ماهر السوريين باستخدام ساطور، يحاول بشار شفاء أعين سوريا باستخدام مشرط جراح.

من الواضح، أن أحدا لم يحاول إجراء جراحة باستخدام ساطور. وفي الوقت الذي يستخدم مشرط الجراح في خلق الحياة، فإن الرسالة التي يحملها الساطور لا تكون سوى الموت.

وتخيلوا درعا ومعرة كعيني سوريا، فماذا حدث في هاتين المدينتين؟ أجرت السلطات جراحة غريبة فيهما باستخدام ساطور.

والتساؤل الذي يفرض نفسه الآن هو: ما الخطأ الذي حدث في سوريا؟ أعتقد أن السلطات السورية، تماما كنظيرتها الإيرانية، تنظر إلى البلاد وشعبها باعتبارهما ملكية خاصة لها. مثلا، في الماضي، نص الدستور السوري على أن المرشح في الانتخابات الرئاسية يجب ألا يقل عمره عن 40 عاما. ومع ذلك، تولى بشار الرئاسة في الـ34! ومن أجل ذلك، جرى تغيير الدستور في ساعات قليلة في أعقاب وفاة حافظ الأسد!

وجاء نص التعديل كالآتي: «تعدل المادة 83 من دستور الجمهورية العربية السورية وتصبح كما يلي:

(يشترط في من يرشح لرئاسة الجمهورية أن يكون عربيا سوريا متمتعا بحقوقه المدنية والسياسية متما الرابعة والثلاثين عاما من عمره).

دمشق في 9/3/1421 هـ، 11/6/2000م.

نائب رئيس الجمهورية

عبد الحليم خدام

ولدينا في إيران تجربة مشابهة للغاية، بل وكانت أكثر غرابة، وتتعلق بزوج الشاه محمد رضا بهلوي. في ذلك الوقت، كان أميرا ووليا للعهد، وعلى الرغم من أن الدستور الإيراني ينص على أن زوجة ولي العهد يجب أن تكون إيرانية، تزوج رضا بهلوي الأميرة فوزية (شقيقة الملك فاروق، ملك مصر). وفي سعيه لحل هذه المشكلة، منح البرلمان الإيراني الأميرة فوزية نسبا إيرانيا! ويكشف هذا بجلاء كيف أن الدستور لم يكن سوى أداة في يد الحكومة.

ويمكن القول إنه في سوريا، لا يعدو الدستور أن يكون حبرا على ورق! هذه الأيام، يدور حديث السوريين حول المادة الثامنة من الدستور التي تنص على أن «حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية».

وبجانب هذه المادة، تنص المادة 84 على أن الرئيس ينبغي أن يكون ممثلا لحزب البعث، حيث تذكر أنه «يصدر الترشيح لمنصب رئاسة الجمهورية عن مجلس الشعب بناء على اقتراح القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي، ويعرض الترشيح على المواطنين لاستفتائهم فيه».

وأعتقد أن هذا أيضا لا يعدو كونه حبرا على ورق، ذلك أنه في واقع الأمر تتولى قوات الأمن إدارة وتنظيم الحزب، وهي من يختار الرئيس. ولا تحمل أي مادة من الدستور تتناول حقوق الشعب السوري وتشرح الحقوق الديمقراطية والحريات أي معنى حقيقي. ويبدو الدستور أشبه بقفص مليء بالأكاذيب. وفي تاريخ كل أمة هناك نقطة تحول يصبح فيها المطلب الأساسي للشعب الخروج من القفص والتحرر من الأغلال، سعيا للحرية.

الآن، يتعرض آلاف السوريين للذبح والسجن والاضطرار للفرار من ديارهم، مع زحف الدبابات والقوات شمالا وشرقا، وأجبرت قرابة 10.000 سوري على الفرار إلى تركيا. وفي الوقت ذاته، تتحدث الحكومة السورية عن الحرية وحقوق مواطنيها بقلب من خشب وقبضة من حديد. وهذا قطعا وضع لا يصدقه ولا يقبله عقل، فمن ذا بإمكانه علاج الجروح باستخدام ساطور؟ أعتقد أن الأمر انتهى الآن، وأصبحت الحكومة عاجزة عن خداع السوريين. إننا الآن نعاين فصلا جديدا في التاريخ السوري، سطرته الصدامات بين السوريين. ولا نزال نتذكر جميعا أحداث فصل مشابه في مصر عندما اندلعت صدامات بين المصريين. من الواضح أن المظاهرة الموالية للحكومة نظمتها الحكومة ذاتها، خاصة قوات الأمن. وهذا أسوأ جزء من لعبة السلطة. عندما واجهت الحكومة الحقيقة وأدركت أن المواطنين لن يبرحوا الشوارع والميادين وازداد عود المقاومة يوما بعد آخر، حينئذ شاهدنا نهاية نظام مبارك. لقد كان يوم الحساب! لقد تجرع مبارك وبن علي وعلي عبد الله صالح مرارة الحاضر ومقاومة شعوبهم. الآن، حان الدور على بشار! والسؤال الآن: هل هناك فرصة أمام بشار لاتخاذ القرار الصائب؟ يتعين على بشار الاختيار بين الساطور ومشرط الجراح. ليس هناك خيار ثالث. وهناك فجوة كبيرة بين الكلمات والأفعال، وبالتالي مواجهة خطيرة بين الساطور ومشرط الجراح. في بداية مقالي حددت معنى أو أصل لفظ معرة، وهو القتال من دون إذن الأمير. والسؤال هو: هل قاتل ماهر أهالي درعا ومعرة وحماه من دون إذن بشار؟

هل تعتقد الحكومة السورية أن بإمكانها الاستمرار في مثل هذا السلوك المنافق المتمثل في الحديث عن الحرية والديمقراطية، بينما تقتل وتسجن آلاف السوريين؟

دعوني ألقِ سؤالا جوهريا: هل تعتقد الحكومة السورية أن بمقدورها خداع السوريين؟ وهنا أتذكر الأبيات التي نظمها الجواهري في مدينة معرة:

قف بالمعرة وامسح خدها التربا

واستوح من طوق الدنيا بما وهبا

واستوح من طبب الدنيا بحكمته

ومن على جرحها من روحه سكبا