الإنسان.. أولا!

TT

في اللحظة التي أعلنوا فيها عن فوز حزب العدالة والتنمية التركي، في انتخابات البرلمان، التي جرت الأسبوع قبل الماضي، قال رجب طيب أردوغان، رئيس الحزب، عبارة تلخص المشهد بأكمله في تركيا، منذ تولي الحزب السلطة، في عام 2002 إلى الآن، ثم لـ4 سنوات أخرى مقبلة، سوف يكون فيها أردوغان رئيسا للحكومة في العاصمة أنقرة!

العبارة تتكون من 10 كلمات، ولا علاقة أساسية لها بما حصل عليه «العدالة والتنمية» من أصوات الناخبين في ثالث انتخابات يخوضها، ولا بما قد يقوم من تحالف بينه وبين أي من الأحزاب الثلاثة الأخرى الكبرى، ولا بعلاقة تركيا بالاتحاد الأوروبي، وهي علاقة لا تزال تقوم على رغبة الأتراك الجامحة في دخول الاتحاد، بأي طريقة، ثم تقوم، في الوقت نفسه، على مقاومة من نوع ما، من جانب دول الاتحاد عموما، وفرنسا خصوصا، في سبيل ألا تكون تركيا عضوا في الاتحاد الأوروبي، بهذه السهولة!

العبارة، مرة أخرى، لا علاقة لها بهذا كله، رغم أهميته طبعا، لكنها في الأساس لها علاقة بأن دخل المواطن التركي تضاعف، خلال 8 سنوات حكم خلالها حزب أردوغان، ويبدو أن هذا الدخل في سبيله لأن يتضاعف مرة ثانية، خلال السنوات الأربع المقبلة، التي سوف يكون فيها أردوغان - لآخر مرة بحكم الدستور - على رأس السلطة هناك!

العبارة لها علاقة بأن معدل نمو الدخل القومي في تركيا هو الأعلى عالميا، بعد الصين، وهي مسألة تثير الإعجاب على كل حال، لا لشيء إلا لأن الصين كانت تنازع اليابان، خلال أعوام قليلة مضت، على المرتبة الثانية في ترتيب اقتصادات العالم، بعد الولايات المتحدة مباشرة، وقد انتهى هذا التنازع إلى أن كسبت بكين الجولة، وأصبح اقتصادها من حيث حجمه هو الثاني بعد واشنطن، ويبدو مما هو ظاهر الآن أنها لن يهدأ لها بال حتى تكون الأولى، في المستقبل المنظور!

وحين توضع تركيا مع الصين في طرفي معادلة واحدة، فهذا معناه أن هناك سرا من نوع ما، وأن هذا السر لدى الأتراك هو الذي أدى بهم إلى هذا الموقع المتقدم، من الناحية الاقتصادية، على وجه الخصوص.

وأرجو ألا تصيبك الدهشة حين أشير، الآن، إلى العبارة إياها، على اعتبار أنها السر في هذا كله؛ لأنه من الجائز أن تبدو لك العبارة نوعا من تحصيل الحاصل، أو تبدو على أنها بديهية لا يجوز أن نتوقف عندها بهذا التركيز!

قال أردوغان، بمجرد إعلان فوزه: «منذ الآن، سوف يكون كل مواطن هو المواطن رقم واحد»!

والمعنى أنه يؤكد، من جديد، أن عينه كرئيس حكومة سوف تكون على المواطن، كمواطن، وسوف يكون اهتمامه هو، كرئيس وزراء، منصبا على كل مواطن، على حدة، بما سوف يجعل أي مواطن يشعر على مستواه الشخصي أن رئيس حكومته عندما فاز في الانتخابات كان يفوز من أجله هو وحده، دون سواه!

وإذا كانت هناك ملاحظة وحيدة على عبارة أردوغان، فهي أن كلمة سوف تبدو وكأنها قد جاءت فيها بطريق الخطأ؛ لأن المتابع لما يجري في تركيا، طوال الأعوام الثمانية الماضية، سيلاحظ، قطعا، أن العبارة كانت مطبقة هناك بمعناها وحرفها، وأنها إذا كانت قد نطق بها رئيس الحكومة في غمرة الفرحة بالفوز، لا تتعلق بالمستقبل عندهم، ولا حتى بالماضي، بقدر ما تعبر عن أسلوب عمل يعتقد فيه أردوغان، ثم عن طريق حياة يعمل به هذا الرجل، في كل وقت!

ولو أن أحدا منا جرب أن يعود إلى البرنامج الانتخابي المعلن للرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، عندما كان لا يزال مرشحا للرئاسة عام 1992 فسوف يكتشف أنه كان وقتها يتكلم اللغة نفسها التي يتكلم بها أردوغان في عام 2011.

في ذلك الوقت، كان كلينتون يعرف أن اقتصاد بلاده مر بعدة صعوبات في عهد الرئيس بوش الأب، من عام 1988 إلى 1992 وأن الاقتصاد الأميركي في حاجة إلى معجزة ليخرج من محنته، وأنه في حاجة إلى رئيس يتعامل معه، ومع المواطن الأميركي قبل الاقتصاد، بشكل مختلف!

لذلك، كان برنامج كلينتون الانتخابي تحت عنوان: الإنسان.. أولا!

وطبيعي أن تقول أنت، حين تقرأ العبارتين، سواء على لسان أردوغان أو على لسان كلينتون: إن هذا هو الدور الطبيعي للحاكم، في أي بلد، وإن رئيس حكومة تركيا إذا قال إن كل مواطن سوف يكون منذ الآن هو المواطن رقم واحد، فهذا هو الطبيعي، والعادي، والمتوقع.. أما ما عداه فهو غير الطبيعي، وكذلك الحال مع كلينتون، إذا كان قد نادى بأن يكون الإنسان في بلاده أولا!

ولا خلاف حول ما يمكن أن يثور في داخل قارئ هذه السطور، في هذا الاتجاه، لكن الخلاف فقط سوف يكون مدى الجدية في الأخذ بمثل هذه العبارات عندنا.. وعندهم!

فالمرشح كلينتون كان يقول عبارته وهو يعنيها تماما، وكان يعرف مقدما أن الإنسان أولا تعني أن يتاح لهذا الإنسان تعليم حقيقي، لا صوري، بحيث يصعد بمستواه فعلا، إذا قامت أي مقارنة بينه وبين أي إنسان يعيش في بلد آخر، وأن تتاح له خدمة صحية يشعر معها، ومع مستوى التعليم قبلها، بأنه بالفعل أولا وليس ثانيا، ولا ثالثا!

وحين كان على الرئيس كلينتون أن يغادر البيت الأبيض، في نهاية ثماني سنوات حكم فيها، كان اقتصاد بلاده في القمة، من حيث مستوى الأداء والنمو، وكان إنسان بلاده في المكانة التي أرادها له الرئيس منذ البداية، وكان ولا يزال يقال عن كلينتون إنه حقق في الأعوام الثمانية ما لم يحققه رئيس أميركي على مدى السنوات الممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية، عام 1945 إلى عام 2000!

شيء من هذا آمن به أردوغان وقرر أن يعمل به، منذ لحظته الأولى في السلطة، فكانت الحصيلة معه، بعد 8 سنوات، أي ما يوازي بالضبط سنوات حكم كلينتون، شبيهة تماما بما حققه الرئيس الأميركي الأسبق!

لا ترد من فضلك وتقول: إن هذا هو المفترض، بالنسبة لأي حاكم، في أي بلد، منذ أن تقرر في علوم السياسة أن يقوم كيان مؤسسي على الأرض، اسمه الدولة، إلى وقتنا هذا.. لا ترد وتقول بكلام كهذا؛ لأن العبرة دائما ليست بما يقول الحاكم - حين يحكم - إنه سوف يفعله، ولكن بما فعله على الأرض، وترك وراءه، عندما كان عليه أن يغادر منصبه!

هات خطابات كثير من الحكام العرب، عند بدء توليهم السلطة في بلادهم، وقارن بينها وبين ما قاله كلينتون، ثم أردوغان، وسوف تجد أن الكلام واحد تقريبا، وأن الوعود واحدة، تقريبا، أيضا، وأن الفارق الأساسي هو أن كلاما يقال هناك، فيتحول إلى برنامج عمل مقترن بفعل، وأن كلاما يقال هنا فلا يقترن ببرنامج عمل، ولا بفعل.. فأين الخلل بالضبط عند المقارنة بيننا نحن مثلا، كعرب، وبين الأتراك الذين بيننا وبينهم جوار، وأشياء مشتركة كثيرة؟!

أين الخلل؟ هل هو في جينات العقل العربي ذاته إذا قورن بالعقل التركي؟! وما الذي بالتالي يجعل حصيلة 8 سنوات في اسطنبول، على هذا المستوى الرائع اقتصاديا، ثم يجعل 30 عاما في القاهرة، من حكم مبارك، على سبيل المثال، تظل تصب خارج الكأس.. إلا قليلا؟!

مختصر الكلام: الإنسان.. أولا!