حديث المصالحة الفلسطينية مرة أخرى

TT

العودة ضرورية إلى حديث المصالحة الفلسطينية. بسبب الحاجة إليها من جهة، وبسبب التعثر الذي تواجهه من جهة أخرى. وحاليا فإن عنوان التعثر هو الخلاف بين فتح وحماس حول شخص رئيس الحكومة، من هو؟ ومن يختاره؟ ولكن الأمر بالطبع أعمق من ذلك. كان أعمق في السابق، ولا يزال أعمق حتى الآن.

نقول أعمق، لأن المصالحة بين فتح وحماس على أهميتها، ليست هي المصالحة المطلوبة. المصالحة المطلوبة هي مصالحة مع الشعب الفلسطيني، الذي تمت قيادته نحو اتفاق أوسلو، وحسب حلم بإنشاء الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967 (عاصمتها القدس، ومن دون مستوطنات، ومن دون تبادل أراض، ومن دون اعتراف رسمي بإسرائيل، ومع الحفاظ على حق العودة)، ولكن هذا الحلم تلاشى مرة بعد مرة. تلاشى مع الرئيس ياسر عرفات حين رفض قبول مشروع السلام الإسرائيلي في كامب ديفيد 2000، وتلاشى مع الرئيس محمود عباس، حين عجز عن قبول مشروع السلام الإسرائيلي بعد مفاوضاته المديدة مع إيهود أولمرت. وهو نفسه وصف تلك المفاوضات بأنها فاشلة وعبثية، أرادت إسرائيل من خلالها القدس، ونصف الضفة الغربية، والبقاء عند حدود نهر الأردن. وما دام الأمر كذلك، أي ما دام الأمر يتعلق بمشروع سياسي فشل على امتداد عهدين، وعلى مدى زمني يقارب العشرين عاما، فإن من الطبيعي إذن أن تكون المصالحة المنشودة هي مع الشعب الذي قدم التضحيات، ثم عانى من ظروف الاحتلال والقتل والاعتقال والتهجير، ولا يزال. وتعني المصالحة مع الشعب أمرين اثنين، خطة سياسية جديدة تقطع مع نهج اتفاق أوسلو، بعد أن ثبت أن إسرائيل لا تريده، كما أنها لا تريد دولة فلسطينية حقيقية. والأمر الثاني أسلوب نضالي جديد ينطلق من حق الشعب المحتل في أن يقاوم الاحتلال بكل الوسائل ومن ضمنها الكفاح المسلح.

هذه المصالحة الغائبة لم تمنع الشعب الفلسطيني أن يرحب بالمصالحة بين فتح وحماس، آملا أنها ستقود إلى خطة سياسية جديدة، وإلى خطة نضالية جديدة، لتتطور حينئذ من مصالحة بين فصيلين إلى مصالحة تخص الشعب كله.

عامل آخر في المصالحة الفلسطينية زاد من حماس الشعب لها، وهو العامل الذي يتعلق بمصر، فمصر هي التي رعت اتفاق المصالحة، ملغية انحياز العهد السابق إلى طرف فلسطيني دون آخر، وإلى سياسة فلسطينية دون أخرى. ومثل موقفها هذا إعلانا بعودة مصر إلى ساحة العمل النضالي الفلسطيني، وهي عودة تنطوي على معان سياسية عميقة، أدركها الإسرائيليون قبل غيرهم، من دون أن يملكوا هذه المرة قدرة التأثير على قرار مصر السياسي كما كان الحال في السابق. وأدركها الفلسطينيون أيضا، جماهير وفصائل، فتمسكوا بها، وقدموا من أجلها التنازلات.

لقد بنيت المصالحة الفلسطينية على بنود ثلاثة: البند الأول حل الإشكالات المتعلقة بقطاع غزة (الإدارية) أو الناتجة عنه (الاعتقالات، والإصابات، والمصالحات العائلية)، واعتبر هذا الأمر ممكنا. والبند الثاني «التوافق» على تشكيل حكومة وحدة وطنية، ومن عناصر مستقلة، تقود الوضع الداخلي نحو إجراء انتخابات بعد عام. واعتبر هذا الأمر ممكنا أيضا. والبند الثالث يتعلق بتطوير وإحياء منظمة التحرير الفلسطينية، وهو الذي اعتبر ضمنيا البند الأصعب، لأنه يتعلق بشمولية القيادة، كما يتعلق بالبرنامجين السياسي والنضالي المختلف عليهما بعمق. وكان مقدرا للرياح بعد ذلك أن تجري كما تشتهي السفن، ولكن الرياح أبت أن تفعل ذلك، فتعطلت سفن المصالحة، حتى من خلال أشرعتها الأصغر: الحكومة.

علنيا.. تعثرت قضية تشكيل الحكومة بسبب اسم رئيسها المقترح سلام فياض. ولكن الحقيقة أن القضية أعقد وأخطر من قضية الاسم ومن قضية الشخص. إنها قضية سياسية بامتياز، تتعلق كما قلنا بالمنهج السياسي والنضالي، وهو منهج يتحكم بمجاديفه رئيس السلطة الفلسطينية، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، رئيس حركة فتح، الرئيس محمود عباس. أما سلام فياض فهو أحد مجاديف السفينة لا غير، والرئيس عباس له سياسة معلنة ومشروحة ومكررة. أعلنها رسميا بعد توليه السلطة عام 2005، وواظب عليها طوال فترة حكمه.. حتى الآن. وتقوم هذه السياسة على البنود التالية التي شرحها وكررها في لقائه التلفزيوني الأخير مع محطة لبنانية:

أولا: إلغاء النضال المسلح ضد الاحتلال، وقال بشأنه إن الانتفاضة الثانية المسلحة «خربت بيتنا». وكان قد قام قبل ذلك بتصفية الجناح العسكري لحركة فتح. وكان أول قرار اتخذه بعد توليه الرئاسة مباشرة هو إلغاء نفقات المناضلين المطلوبين من إسرائيل، وكان يطلق عليهم آنذاك اسم (المطاردون)، وكان عددهم يتراوح بين أربعة آلاف إلى خمسة آلاف.

ثانيا: الإصرار على أن منهجه الوحيد في العمل هو التفاوض، وكان يشرح ذلك قائلا: التفاوض، ثم التفاوض، ثم التفاوض. وقد طبق ذلك فعليا. ولكن الغريب في الأمر أنه ظل يكرر الموقف نفسه حتى بعد أن اعترف بفشل المفاوضات مع إسرائيل، ووصف تلك المفاوضات بالعبثية. وقد تعطلت هذه المفاوضات في عهد بنيامين نتنياهو مرة بسبب رفضه الإقرار بأن المفاوضات ستجري حول الأراضي التي احتلت عام 1967. ثم تعطلت مرة أخرى بسبب رفض نتنياهو وقف الاستيطان حتى ولو لثلاثة أشهر. وكان مبرر مثل هذا الموقف المصر على التفاوض، أن الرئاسة الأميركية كانت دائما تقول بوقف الاستيطان، وتتحدث عن حدود 1967، إلى أن أعلن الرئيس الأميركي إرضاء لنتنياهو ما يفيد عكس ذلك. ومع ذلك فإن الرئيس عباس يصر على منهج التفاوض، وهو مستعد حتى لإلغاء مسعاه باتجاه الأمم المتحدة، إذا ما وافق نتنياهو على العودة إلى التفاوض على «أساس» حدود 1967 (مع تبادل الأراضي طبعا).

ثالثا: إصرار الرئيس عباس على منطق يقول: إنه لكي ينجح التفاوض فلا بد من أن تكون العلاقات جيدة مع حكومة إسرائيل ومع حكومة الولايات المتحدة الأميركية. وقد دخلت هذه النظرية حيز التطبيق من خلال ثلاثة جنرالات أميركيين توافدوا على إسرائيل، وكان أشهرهم الجنرال (كيث دايتون) الذي وضع نظرية التعاون الأمني، وأشرف على حل أجهزة الأمن الفلسطينية التي تشكلت في عهد الثورة، وأشرف على بناء أجهزة أمنية جديدة تتعاون مع الأمن الإسرائيلي وتتبادل معه المعلومات. وزود دايتون هذه الأجهزة بنظرية (عقيدة أمنية) تقول: إن الكفاح المسلح خرب إنشاء الدولة الفلسطينية، وفرض الأمن من خلال حصر وجود السلاح بيد السلطة فقط هو الذي سيمهد لإنشاء الدولة الفلسطينية.

رابعا: ربطت السلطة الفلسطينية مصيرها المالي بأموال الدول الأوروبية المانحة. وهي أموال أصبح تقديمها مشروطا بوجود سلام فياض في وزارة المالية (أيام عرفات) وفي رئاسة الوزراء (أيام عباس). وشرط تقديمها أن لا تذهب إلى (الإرهاب)، سواء كان متمثلا بفصائل تتبنى المقاومة أو بهيئات أو جمعيات تقدم الأموال إلى أسر الشهداء. وأموال هذه الدول هي الحجة الأقوى التي يستند إليها الرئيس عباس في إصراره على تولي سلام فياض رئاسة الحكومة المقبلة، حكومة المصالحة. ويجري طرح هذه المسألة من دون أي بحث في المسائل السياسية التي أشرنا إليها، ومن دون أي بحث في إمكانية تغيير تطبيقاتها على الأرض.

لكل هذا تتعطل المصالحة الفلسطينية الآن. وستتعطل أكثر عند البحث في المسائل السياسية النضالية، إلا إذا ذهب الجميع إلى البديهية التي تقول إنه عند فشل سياسة ما فلا بد من استبدالها بسياسة جديدة.. وهذا ما لم يحدث حتى الآن.