حزب يجب أن ينتهي!

TT

تقول الطرفة الحزينة والسوداء، إن أسوأ أنواع التعذيب النفسي الذي تفوق إهانته ما يحصل في سجن أبو غريب وسجن غوانتانامو، هو أن يتم تكبيل السجين أمام بث مباشر للمؤتمر العام لحزب البعث العربي الاشتراكي والإصغاء إلى خطب أعضائه الواحد تلو الآخر. لغة خشبية معتقة وعبارات لا معنى لها وكلمات رمادية وهلامية لا هدف من ورائها ولا مغزى، شعارات فارغة من المضمون والمحتوى. حزب ادعى أنه ينادي بالحرية والثورة والاشتراكية، وكان أكثر الأنظمة قمعا وأفرز طبقة حاكمة مستبدة ووسع في اشتراكية الفقر والمعاناة والاستبداد، والثورة الوحيدة التي أقامها كانت على حق وكرامة المواطن! له شعار باهر ورومانسي هو: أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة. وإلى اليوم لم يتقدم أو يجرؤ أحد على أن يفسر للعالم المندهش ما هي هذه الرسالة وما هي أسباب خلودها!

نظام البعث ساهم وبقوة في «تعزيز» الوحدة العربية بشكل فريد من نوعه، فهو احتل الكويت «عراقيا» وسيطر على لبنان «سوريا»، وكان الحزب وعناصره هو الذي قاد حركة الانفصال عن الوحدة بين سوريا ومصر، مع ضرورة وأهمية الاعتراف بوجود أخطاء فادحة ومدمرة من قبل النظام الناصري الموتور هو الآخر بحق سوريا.

وطبعا في موقف «بيزنطي» غير مفهوم إلى اليوم، اختار حزب البعث بفرعه السوري أن يقف ضد الحزب بفرعه العراقي، وساند إيران في حربها ضد العراق، وكانت الدولة «العربية» الوحيدة التي وقفت ضد «شقيقتها» في العروبة ليبدأ الناس في الترويج بأن للحزب البعثي أولويات أهم وأدق وأخطر من شعار «العروبة» الذي بات يشبه بالنسبة إليه الطبل الأجوف. الحكم في سوريا برع جدا في استخدام واجهة الحزب إلى غاية ترويج آيديولوجيا وعقيدة سياسية ملائمة تناسب طلبات الشارع العربي وقتها (عروبة واشتراكية وثورة، وغيرها من الشعارات التي كان ينادي بها الحزب في مؤتمراته العقيمة)، ولكن بالممارسة انقلب النظام السوري بضراوة على مؤسس ومفكر الحزب نفسه، وهو السوري ميشيل عفلق ورفاقه، الذي هرب بحياته ليحتضنه العراق و«بعثه» العجيب الآخر.

وكذلك انقلب الحكم على رفاق الانقلاب العسكري الذي جاء بحافظ الأسد للحكم، فتم القضاء على صلاح جديد ورفاقه سياسيا تماما. واستمر «وجود» الحزب شكليا في مؤتمراته، وظلت صحيفة رئيسية تصدر من العاصمة باسم البعث وجامعة مهمة في حمص باسم الحزب وعلم الحزب يرفرف على كل مؤسسة رسمية وغير رسمية بجوار العلم السوري. ولكن البعث تحول إلى رمز للطغيان والاستبداد والفساد وفرخ نماذج مرعبة في التجاوزات على أصعدة عدة عرفها المواطن السوري ويستشهد بها ليلا ونهارا.

والإصلاح الذي خرج ينادي به السوريون اليوم وتحول إلى نداء صارخ لتغيير النظام لرابع شهر، من ضمن مطالبه إلغاء هيمنة هذا الحزب الفاشي على الحياة السياسية السورية، والذي كتبت هيمنته كجزء من الدستور السوري، وهي مكانة لم تنلها الأديان السماوية نفسها في ذات الدستور! هذا الحزب كان أداة تخوين وتشكيك في وطنية الآلاف ودين الآلاف وعروبة الآلاف، وتحول إلى سرطان ينتشر في الجسد السوري (الذي حاول بث نفس الهم إلى لبنان ومصر واليمن وفلسطين والأردن، ولكن مشروع الانتشار باء بالفشل المذل).

«من خربها لا يستطيع أن يصلحها».. هكذا تقول الحكمة الشعبية البسيطة. وبالتالي فاستخدام نفس أدواته السياسية، مثل حزب البعث ومبادئه، هو خداع كبير للحق الإنساني في العيش بكرامة. البعثيون دمى لا معنى لهم ولا قيمة، هم مصفقون ومطبلون أصبحوا أضحوكة وهم يكرسون للاستبداد والتسلط، هذا هو تاريخ البعث العربي الحقيقي، ولا فخر للانتماء إليه ولا إرث ولا مجد يشكر عليه.

البعث هو معين يقدس فيه المستبد أصنامه، ويرتع فيه الزبانية والمحاسيب والأنصار. بلد عظيم وشعب أبي كسوريا والسوريين حتما يستحق أداة سياسية أكثر احتراما ولياقة وجدارة من الهم المسمى بحزب البعث.

[email protected]