بين القصرين

TT

نويت، غير مرة، أن أضع كتابا حول الرؤساء اللبنانيين الذين عرفتهم. وكلما شرعت في ذلك اكتشفت أنني سوف أرضي ضميري وأغضب سكان الجمهورية. ويشكو لبنان من أنه ليس هناك كتاب موحد للتاريخ، لأن كل لبناني لديه فكرة خاصة عن تاريخ شعبه. وقد خطر لي أن أحاول العمل على صيغة موضوعية للمرحلة التي عايشناها، فتبين لي أنه إذا نشر الكتاب، يجب أن أبحث عن مكان في القطب الشمالي أعيش فيه. لأن الموضوعية في لبنان انتحار.

هناك شبه توافق، مليء بالتحفظات، على أن «تاريخ لبنان الحديث» للدكتور كمال الصليبي (دار النهار - 1967) هو الأكثر قبولا أكاديميا. وكلما عدت إليه أكتشف أنني لا أستطيع اللهاث خلف قراءته، فكيف استطاع هو أن يكتبه؟! على سبيل المثال هناك فصلان عن مرحلة الأمير بشير الثاني (1788 – 1840) المعروف بالكبير. وقد حكم 52 سنة، أي الفترة الأطول في تاريخ البلد. لكنها لم تكن فترة متواصلة ولا مستقرة. مرة نراه هاربا في مصر أو في قبرص أو في عكا. ومرة نراه يقاتل إلى جانب إبراهيم باشا ومرة ضده ومرة هاربا منه. ومرة نرى محمد علي راضيا عنه ومرة غاضبا عليه. مرة متخانقا مع والي دمشق ومرة متحاربا مع والي عكا. مرة يثقله بالضرائب هذا الوالي ومرة ذاك. وأما في الداخل فمرة قتيلا ومرة قاتلا. ومرة فقيرا ومرة ثريا.

والحقيقة أنني لم أقرأ الفصل الثاني بعد. لكن طبعا لا مفاجآت. فالدول المنقسمة طالما يتغير تاريخها. وقبل ربع قرن كان الرئيس اللبناني، مثل بشير الثاني، حائرا بين إرضاء والي دمشق (حافظ الأسد) ووالي عكا (ياسر عرفات). والويل له إذا أغضب أحدهما. وقبل ثلاثين عاما هرب الرئيس سليمان فرنجية من قصر بعبدا إلى منزل في الكفور.

والآن ينظر لبنان إلى أحداث سوريا بخوف. فقد تغيم في دمشق وتمطر عنده. وأهله منقسمون حول سوريا، يتقاتلون في طرابلس ويتظاهرون في بيروت ويتحفزون في صيدا. الدول المنقسمة لا يمكن أن تعرف الاستقلال الحقيقي. ولبنان ليس دولة ولا وطنا، كما يقول كمال الصليبي، وإنما هو عقد اجتماعي بين مجموعة فرقاء. ولا بد أن يظل هذا العقد مختلا باختلال توازن القوى في الجوار. ولا بد له أن يخاف كلما اختلف والي عكا ووالي دمشق وقرر محمد علي باشا أن ينقض على الاثنين. وفي قصة بشير الثاني، يكون بشير بك جنبلاط مرة هنا ومرة هناك. ويكون هاجسه دائما الحفاظ على قصر المختارة. إيه نعم.