اليونان.. الوهم الكبير واستحالة الإنقاذ

TT

ظلت اليونان لفترة طويلة مصدرا للتأثير العاطفي على جميع أنحاء أوروبا، وقد اتسم الحديث عن اليونان، التي تعتبر مهد الحضارة الغربية، بالليونة والتساهل، ولم يكن الاتحاد الأوروبي مستعدا للدخول في منافسة مع الدولة التي تعتبر مسقط رأس الديمقراطية في العالم. إن مجد الماضي هو شيء رائع بكل تأكيد، ودليل ومرشد رديء للسياسة الحالية، كما هو واضح في كوسوفو وأثينا. وكان ينبغي ألا تنضم اليونان إلى منطقة اليورو؛ حيث أخفقت في الانضمام لها عام 1999؛ لأنها لم تفِ بالمعايير المالية. وعندما نجحت في الوفاء بهذه المعايير عام 2001، جاء الإصلاح من خلال أرقام زائفة في الميزانية. لكن الاتحاد النقدي الأوروبي الجسور قد طلب موافقة من أثينا بأن تكون أوروبية بالكامل، وهو ما جعل الجميع يغض الطرف عن ذلك.

في الواقع، كان يجب أن يكون التاريخ الحديث دليلا للإرشاد والتوجيه بطريقة أفضل من ذلك بكثير. لقد كان القرن الماضي مرعبا بالنسبة لليونان. دعونا نبدأ بالحروب في عامي 1912 و1913، التي انتزعت شمال اليونان من السيطرة العثمانية، ثم جاء بعد ذلك التبادل السكاني الهائل أو «التطهير العرقي» من خلال التفاوض في لوزان عام 1923، الذي بموجبه أجبر نحو 400 ألف مسلم على النزوح من اليونان إلى تركيا وما لا يقل عن 1.2 مليون من المسيحيين الأرثوذكس اليونانيين من تركيا إلى اليونان.

وقد أعقبت هذه الاضطرابات ديكتاتورية الجنرال ميتاكساس في الثلاثينات من القرن الماضي، والاحتلال الألماني الغاشم خلال الفترة بين عامي 1941 و1944، والحرب الأهلية المدمرة في أواخر الأربعينات، التي خلفت صراعا آيديولوجيا بين اليسار واليمين.

وقامت الديكتاتورية العسكرية اليمينية خلال الفترة بين عامي 1967 و1974 بتجميع اليساريين ونفيهم، مما أشعل نار الحرب الأهلية، كما أن الصراع الدائر مع تركيا بشأن قبرص وما انطوى عليه من «تبادل للسكان» في عام 1923 لم يتم التخلص منه بصورة نهائية؛ لذا يجب نسيان سقراط وقراءة الكتاب الرائع الذي يحمل عنوان «غريب مرتين» للكاتب بروس كلارك، الذي ألقى من خلاله الضوء على الآثار المترتبة على تبادل السكان بموجب اتفاق لوزان، كما ألقى الضوء على اليونان الحديثة. وكتب كلارك عن اليونان قائلا إنه مجتمع «تكون فيه علاقات الدم أهم بكثير من الولاء للدولة أو لشركاء الأعمال». إن هذا المجتمع ليس عبارة عن حالة ذهنية تؤدي إلى دفع الضرائب أو مجهودات جماعية أو تدابير مالية عامة، على الرغم من أنه لا يستبعد هذه الأمور من الحسبان. ولم يكن من الغريب أن تستخدم اليونان اليورو كوسيلة للعيش عن طريق التقسيط، إن جاز التعبير، تنتهي بعبء من الديون يعادل 150% من الناتج المحلي الإجمالي.

ومن المؤكد أن عضوية الاتحاد الأوروبي سوف تضع بعض البلسم على الجروح اليونانية، وهذا هو الفضل الكبير للاتحاد الأوروبي: إنه يزيل السم عن التاريخ. لكن لا تزال اليونان أمة ترتاب من الغرباء ومكانا يقل فيه الولاء لهياكل الدولة. وهذا شيء لا يبشر بالخير، ويبين أن حزمة الإنقاذ المالية التي وصلت قيمتها إلى 158 مليار دولار العام الماضي قد تكون مجرد أموال جيدة تطارد شيئا سيئا. إنني لم أرَ أوروبا قط في حالة يرثى لها من هذا القبيل. وتكتظ اليونان بالغاضبين الذين يشعرون بالاستياء من الاستقطاعات الحادة، وأصبح بيع صناعات الدولة شيئا ضروريا لأنه لا توجد «دراخما» يمكن تخفيض قيمتها من أجل استعادة القدرة على المنافسة.

ومثلهم مثل المحتجين في إسبانيا، يشعر اليونانيون بأن الفقراء والعاطلين عن العمل هم من يدفعون ثمن أخطاء السياسيين وتهرب الأغنياء والنظام المعولم برمته الذي يكافئ هؤلاء الذين يفهمون في التكنولوجيا ويعاقب من تخلف عنها. وتعتبر أزمة اليورو رمزا ملائما لعصرنا الحالي من نواحٍ كثيرة. إن هذا النظام الذي لا حدود له، والذي تم وضعه من قبل التكنوقراط واستمر على مدى فترة من أسعار الفائدة المنخفضة وتم تقديره من قبل الطبقات الثرية التي حصلت على المزيد من الأموال، يواجه اليوم ثورة شعبية جنبا إلى جنب مع الضغط المستمر من متناقضات هذا النظام.

وتعتبر الإضرابات والاحتجاجات العنيفة مقياسا لأوروبا التي تترك الآن الكثير من المواطنين وهم محلك سر، ولم تؤثر فيهم الإنجازات العظيمة للتكامل الأوروبي، وبدأت الحدود المفتوحة تغلق مرة أخرى، فهاهي تركيا تدير ظهرها للاتحاد الأوروبي، وودعت ألمانيا فترة المثالية الأوروبية بعد الحرب، وتلوم الولايات المتحدة أوروبا على ضعفها العسكري. ويشعر الكثير من اليونانيين والإسبان بأن أوروبا ليست سوى مكان للنصب والاحتيال.

خلاصة القول: إن الوحدة النقدية بين اقتصادات متباينة بشكل جذري من دون دعم من اتحاد مالي أو سياسي هي شيء لم يكن له مثيل تاريخي، كما أنه ليس بالأمر المقنع.

لقد سمح الازدهار وسهولة الحصول على المال للجميع أن يغفل الجميع لفترة من الوقت عن حقيقة أن الاقتصادات الطرفية، مثل الاقتصادين اليوناني أو البرتغالي، لم تكن تكتسب القدرة على المنافسة أو لم تكن «تتقارب» مع دول أوروبا الغربية، لكنها كانت تكدس العجز والديون التي لا يمكن تحملها، والآن أصبحت الحقائق الثابتة واضحة للعيان.

ونظرا للسياسة اليونانية المتفجرة والسخط الألماني والحدود التي سيقبلها الشعب اليوناني، أعتقد أن أفضل نتيجة يمكن تصورها على مر الزمن ربما تكون عجزا عن السداد بشكل منظم. ببساطة ليس هناك أي استعداد لاتخاذ الخطوات الأساسية - مثل الموافقة على مسألة إصدار «سندات إلكترونية» مكتتبة من قبل جميع دافعي الضرائب في منطقة اليورو أو إنشاء وزارة مالية تابعة للاتحاد الأوروبي – والتي من شأنها أن تقنع الأسواق بأن منطقة اليورو مستعدة لتحمل منطق الوحدة النقدية. ونتيجة لذلك، فإن الاتجاهات الواضحة بالفعل – بعيدا عن التقارب – سوف تستمر مع مرور الوقت. في الواقع، لم تكن اليونان مستعدة للدخول في منطقة اليورو، وكان ماضيها الكلاسيكي أقل أهمية من ماضيها القريب. إن الكذب يشبه كرة الثلج؛ فكلما استمر لفترة أطول زاد حجمه، ولا يمكن لعملية إنقاذ أن تخفي ذلك.

* خدمة «نيويورك تايمز»

*ي مكنك متابعة روجر كوهين على «تويتر» على twitter.com/nytimescohen