الرئيس.. وحكومات التلاميذ

TT

مشهد واحد كان يتكرر كثيرا في السنوات الأخيرة: الرئيس أو القائد، أيا تكن التسمية التي يطلقها الإعلام الرسمي عليه، وهو يعقد اجتماعا لا بد أن يأخذ صفة الـ«هام» مع أعضاء الحكومة التي عينها لتدير البلاد.. والجميع يستمع بأدب جم ويدون الملاحظات، ولا نسمع عن أحد أثار جدلا أو اختلف في شيء مع الرئيس، وحتى في الحالات التي يحدث فيها ذلك يوضع في الظل ولا يعرف عنه أحد شيئا وتصدر له التعليمات بألا يتحدث إلى أحد.

في أغلب الأحيان تكون القرارات المنشورة منسوبة إلى أفكار الرئيس أو توجيهاته وتعليماته، بينما أعضاء هذه الحكومة يبدون كتلاميذ صف ابتدائي كل دورهم هو أن يكونوا في غاية الأدب والاحترام، وحتى لو اجتمعوا وحدهم فلا بد أن تكون في الخلفية صورة بأكبر مقاس ممكن للرئيس أو الزعيم المحبوب من كل الشعب لتظلل اجتماعهم.

كان هذا هو الحال الذي أسهم في ما نراه من الثورات والانتفاضات الشعبية التي نراها في عدة دول عربية، بعدما شعر الناس بأن هذا المشهد الممل طال أكثر من اللازم.

كانت هذه الأنظمة تبدو متمكنة ومتينة الأساس ومتغولة في كل أجهزة الأمن التي تحميها، ولم تر الإعصار القادم، ثم اكتشف الناس أن السوس نخر في أساسها، ودهش العالم من تهاويها بهذه السرعة ومن ضعف البصر الذي أدى بها إلى عدم رؤية نهايتها والمكابرة في ذلك.

هذه الأنظمة ولدت في مرحلة ما بعد الاستقلال أو التحرر الوطني بتواريخ زمنية مختلفة بين الخمسينات والستينات، ومثل أي نظام جديد كان لها مؤسسون رفعوا شعارات أو مبادئ عامة تحكمهم، مثل المبادئ الستة الشهيرة لـ«23 يوليو»، وطبقوا فكرهم بصرف النظر عما إذا كان صحيحا أو خاطئا. وعادة ما يكون المؤسسون مغامرين ولديهم شجاعة المخاطرة للانقلاب على ما كان وبناء شيء جديد على أنقاضه، وبالطبيعة فإن هؤلاء لا بد أن يكون لديهم حدس ومهارات السياسي، وبالتالي الاعتداد بالنفس.

مع مرور السنوات على الشرعية الجديدة، تآكل الجيل الأول صاحب الجرأة والعزم السياسي، إما بسبب الخلافات والإقصاء أو بحكم تعاقب الأجيال، ولأن التجربة أثبتت أن هذه الأنظمة لم تستطع أن تخلق آليات التطوير المستمر لنفسها مع تطور احتياجات البلاد والزمن، وكذلك بحكم الفكر الشمولي الذي ساد والتركيز الشديد للسلطة، فإنها أفرغت ساحتها المحلية من السياسة، ومنعت ظهور أجيال جديدة من السياسيين المتمرسين.

حكومات بعد حكومات جاءت على مدار عقود، السمة العامة فيها والصفة المفضلة التي كان يطلق عليها هي حكومة تكنوقراط، وهناك الكثير من المبررات الوجيهة التي تطرح لتبرير ذلك، وأبرزها أن المشاكل معقدة وتحتاج إلى متخصصين وخبراء يديرون العمل، وقد يكون بعضهم أو كلهم خبراء في تخصصاتهم، ولكن النتيجة هي وزارة بكاملها لا يوجد فيها وزير سياسي بمعنى الكلمة، بينما كلمة حكومة تعني أن مهمتها الأولى هي السياسة.

المثال على الوزير السياسي هو ما نراه في حكومات الدول الديمقراطية الغربية، فالوزير هو الرأس السياسي لجهاز الوزارة، يمثل الحكومة فيها ويعمل على تنفيذ سياستها، وفي الدول البرلمانية يكون من الكتلة البرلمانية للحزب الذي يتمتع بالأغلبية، بينما المسؤول عن الأعمال التنفيذية التي تحتاج إلى التخصص والخبرة وكيل الوزارة أو الجهاز الفني والإداري فيها. وميزة الوزير السياسي أنه لن يقبل أن يكون تلميذا في الحكومة ويستطيع أن يجادل ويختلف، وحتى أن يرحل معتمدا على أن له وزنه واسمه السياسي.

نقيض ذلك هو ما كنا نشهده في دول عربية نجحت فيها الثورات، وما زلنا نشهده في دول ما زالت الانتفاضات فيها متعثرة.. حكومات موظفين وتلاميذ لا يستطيع أحد أن يرفع صوته، ويبدو أنه مع طول العشرة انتقلت العدوى إلى رأس الدولة ليصبح بلا خيال ولا سياسة أو رؤية للمستقبل، ولا يوجد سوى آلة القمع للتعامل مع الناس إذا احتجوا. لهذا السبب كانت هذه الدول تسير بسرعة السلحفاة بينما العالم كله يقفز، حتى مل الناس، وكان أبرز نموذج على الطريق المسدود الذي وصلت إليه هذه الأنظمة، هو محاولة تأمين عملية نقل السلطة بالتوريث إلى الأبناء، أي خلق شرعية جديدة لا تستند إلى أي أساس.