في الأزمة الليبية.. إضاءة شموع على درب الثوار

TT

عندما تستعصي أزمة ما في بلد ما عن الحل الوطني التوافقي تبدأ محاولة تفكيك هذه الأزمة على المستوى الإقليمي، وعندما لا تفلح حتى المنظمات الإقليمية في ذلك تتدول الأزمة، ويصبح الفاعلون الوطنيون والإقليميون والدوليون عاجزين عن التحكم في كل عناصر الأزمة ومجريات الأمور وتداعياتها، فتعصف بهم رياح التجاذبات والمصالح الدولية. وهذا واقع الأزمة الليبية الآن.

هذا من جانب، أما من الجانب الآخر، فإن الأزمات الوطنية عندما تصل إلى مرحلة التشبع الاحتقاني، ويصبح الاحتكام للسلاح هو الحل الوحيد المتوفر، فإن صوت العقل والمنطق سوف يكون خفيضا إلى درجة تجعله غير مسموع في جلبة طلقات الرصاص والانفجارات التي تطغى على كل شيء، وتكون الخطب والمداخلات التعبوية مسيطرة على كل المسرح السياسي. وفي سياق من هذا القبيل يعتبر النظر بشكل عقلاني في الأزمة عائقا مثبطا للروح النضالية السائدة. لكن على الرغم من كل هذه المحاذير لا بد من الإدلاء برأي قد يكون نشازا في هذه المرحلة الاستثنائية، وقد يجلب الكثير من الشتائم والتسفيه، وهذا ثمن لا بد من دفعه، لأنه ليس إلا ثمنا زهيدا مقارنة بدماء الشهداء والأحرار من شبابنا التي تهرق على مذبح الوطن الخالد. وسنقدم في ما يلي إشكالية أساسية لا بد من طرحها:

1) إن معمر القذافي وأبناءه والمقربين منه الذين أفصحوا عن خيارات لا تقبل اللبس بانضوائهم تحت لوائه، وبمساهمتهم في إطالة الأزمة وباشتراكهم في الجرائم التي استهدفت الشعب الليبي هم جزء من الماضي ولا يمكن للشعب الليبي أو القوى الإقليمية أو الدولية القبول بهم، أو إعادة تدويرهم في السوق السياسية لجعلهم طرفا في اللعبة السياسية القادمة. وهذا يعتبر إحدى الركائز الصلبة التي يتفق عليها الجميع.

2) إن ليبيا الموحدة، وعلى الرغم من الشروخ التي حصلت أو قد تحصل في نسيجها الاجتماعي هي هدف أولي لكافة الفاعلين في الأزمة. ذلك أن تفكيك ليبيا قد يخلق دويلات مصوملة تستطيع من خلالها بعض القوى المتطرفة أن تجد ملاذا آمنا لنشر الفوضى في المناطق المجاورة وفي منطقة البحر الأبيض المتوسط كلها. إن هذا السيناريو هو بمثابة كابوس لا لليبيين وحدهم، بل لكافة دول المنطقة والعالم. لذلك يعتبر هذا العنصر الركيزة الثانية التي تتوافق عليها هذه القوى.

3) إن الإسراع بالإطاحة بنظام القذافي وإحلال نظام بديل عنه يراه الليبيون هدفهم الأول حتى تتسنى لهم إقامة دولة جديدة كانت حلم الأجيال على مدى التاريخ، دولة يستطيعون من خلالها توفير حياة كريمة، ويمتلكون بها أنفسهم ومقدراتهم. أما الدول الإقليمية، فإنها ترى أن الإسراع في إسقاط معمر القذافي وبناء دولة جديدة فيه استتباب لأمنها وضمان لمصالحها القومية خاصة في جمهوريتي تونس ومصر اللتين تعيشان مرحلة سيولة أمنية وسياسية ونعلم حق العلم أن الوضع في ليبيا سيؤثر سلبا أو إيجابا على أوضاعهما. وفي نفس السياق فإن المجتمع الدولي، وعلى الأخص الاتحاد الأوروبي تشغله الأزمة من منظور أمني واقتصادي، لأن تكلفة الحملة إن طالت فسوف ترهق خزائنه في ظل أزمة سياسية اقتصادية طاحنة. وتمثل إعادة تدفق النفط، وقد توقفت إمداداته بشكل كامل مشغلا آخر أساسيا لها، وكذلك صادراتها التي تضررت بفعل الأزمة، حيث تشكل رقما مهما في ميزان دفوعات بعض الدول. أما من الناحية الأمنية، فإن إطالة عمر الصراع قد تدفع إلى تدفق الهجرات غير الشرعية وولوج «القاعدة» إلى حلبة الصراع، مما يلحق ضررا مباشرا وخطيرا بالأمن الأوروبي. وهذه ركيزة ثالثة متفق عليها بالإجماع الوطني والإقليمي والدولي في عنوانها الأساسي ولكن ربما تكون هناك اختلافات في التفاصيل.

4) فيما يتعلق بالنظام البديل لن تكون هناك صيغة متفق عليها من قبل الأطراف الفاعلة في الأزمة. فالفاعلون الوطنيون يريد البعض منهم إقامة دولة ديمقراطية تتحصن بشرعة حقوق الإنسان حتى يتسنى للشعب الليبي أن يتمتع بشيء من الحرية والديمقراطية ويعيش حرا على أرضه بعد كل هذه السنوات الطويلة من الاستبداد، وهناك جزء آخر له رأي مشروع في إقامة دولة ديمقراطية تستند في تشريعاتها إلى الشريعة الإسلامية، وهناك من يرى قيام دولة تكون متواصلة مع تيارات سياسية في كل المنطقة الثائرة وتهدف إلى إقامة الخلافة العثمانية الجديدة بقيادة أردوغان. وكل هذه التيارات تطالب بدولة مدنية لا يعرف ماذا يقصد بها، لأنهم لم يفصحوا بشكل جلي وواضح عن أركانها وشروطها ومكوناتها. وهذه الاختلافات المشروعة سوف تكون الحراك السياسي والاجتماعي بعد سقوط النظام، وهو في نهاية المطاف هم وطني له خصوصية قطرية.

أما على مستوى الفاعلين الإقليميين والدوليين، فما يهمهم ليس شكل الدولة ولا مراميها السياسية ولا فلسفتها الاقتصادية، بل تهمهم قدرتها أو عدم قدرتها على حفظ النظام والأمن، وضبط الحدود وإدارة البلاد بشكل موحد من غير تشظ، بحيث يتمكن الجميع من التحاور معها والثقة بها بحيث تكون مساهمة في أمن الجوار وحوض البحر الأبيض المتوسط، وتكون مفتوحة للاستثمار واستقبال العامة وتدفق النفط بشكل طبيعي.

ولئن كانت أهداف مختلف الفاعلين في الأزمة غير متطابقة في هذا الموضوع فإن القاسم المشترك في حده الأدنى بينها هو إقامة دولة منيعة وقوية ضامنة للاستقرار والأمن.

هذه العناوين الأساسية للأزمة الليبية كما تظهر في المشهد الحالي، بما فيه من مخاوف وتوجسات وأهداف تطل برأسها من أتون هذا الصراع. إلا أن هذه العناوين قد تكون خادعة إذا ما وضعت على محك التحليل والتأصيل العقلاني الدقيق.

في زمن الصراع، عندما تحتد الأزمة يكون من الصعب على المثقفين والمحللين أن يعتمدوا النظر المتأني والفحص الموضوعي لهذه الإشكاليات لأن ذلك قد يبدو تجديفا ضد التيار أو وضعا للعصي في الدواليب. ورغم ذلك فإني لا أجد بدا من المغامرة بتحليل هذه المحاور على نحو مختلف، وأرجو أن لا أجانب النزاهة والموضوعية في هذا الطرح، وأتمنى على كل مثقف أن يساهم من وجهة نظره في ما أقول، وأن يجرح هذا الإسهام ويفككه ويبرز الحقائق التي قد أكون أغفلتها، أو الأخطاء التي قد أكون انزلقت إليها إذا توفرت هذه النيات وهذا الزخم الذي أتوقعه فسوف نسهم جميعا في خدمة هذا الوطن الذي بقدر ما يحتاج إلى القتال من أجل التحرير فإنه يحتاج إلى الصراع الفكري وتباين الرؤى ويحتاج إلى تدربنا جميعا على ترك الشعور بامتلاك الحقيقة المطلقة، فلكل منا أجزاء من الحقيقة، وهذه الأجزاء هي نفسها نسبية. كل ذلك من أجل أن نضيء بعض الشموع على درب الشباب الثائر. وسوف أخص كل هذه الأفكار التي سبق أن سقتها عناوين عامة بمقالات مفردة في كل منها.

* كاتب ليبي