البطل القومي

TT

تذكر لنا كتب التاريخ أنه قبل أن تتوحد إيطاليا على يد (غاريبالدي)، قد باعت دولة (جنوا) جزيرة (كورسيكا) إلى فرنسا سنة 1768 وأرسل الملك لويس الخامس عشر جيشا فرنسيا لتسلم الجزيرة واحتلالها باسمه. ولكن ذلك الجيش لقي مقاومة عنيفة من السكان، فقد رفضوا تسليم جزيرتهم، وعمدوا إلى السلاح للدفاع عنها، فلقي الفرنسيون مشقة هائلة في الاستيلاء عليها.

وقاد حركة المقاومة في الجزيرة شاب بطل خلد اسمه في التاريخ، هو (باسكال باولي)، فقد جمع حوله رهطا من الوطنيين الأحرار، فألفوا حكومة وطنية، ودعوا الناس إلى الثورة، فلبى الجميع نداءهم، رجالا ونساء. واجتاح الجيش الفرنسي الجزيرة وتساقطت جميع القلاع ما عدا قلعة واحدة أبت التسليم، وحاصرها الجيش الذي رفع قائده العلم الأبيض على سيفه طالبا للتفاوض حقنا للدماء، فخاطبه (باولي) من خلف باب القلعة قائلا: حقن الدماء؟! ومنذ متى انتابتكم هذه العاطفة الشريفة؟!

فأجابه القائد: انتابتنا هذه العاطفة الشريفة، كما تسميها، منذ اللحظة التي اتضح لنا فيها أن لدينا عشرة مدافع يمكننا أن نسكت بها المدفع الوحيد الذي عندكم في البرج، وأن عدد رجالنا يبلغ أربعة آلاف جندي، يمكننا بواسطتهم أن نقهر حاميتكم التي لا يزيد من فيها على بضع مئات من المقاتلين.

فأجابه (باولي): إنكم لو فعلتم ذلك فسأشعل النار بالبارود وأنسف القلعة علينا وعليكم.

عندها تراجع القائد وأخذ يهدئ من كلامه، طالبا منه أن يحدد شروطه للاستسلام بشرف.

فأجابه قائلا: إنني مجرد مراسل فانتظر حتى آخذ رأي المدافعين، وغاب لمدة ساعة ثم عاد إلى الباب رافعا العلم الأبيض، علامة أن الرد جاهز، وعندما حضر القائد خاطبه قائلا: إن من شروط المدافعين أن يخرجوا من القلعة بكامل أسلحتهم وأعلامهم على قرع الطبول، وأن يؤدي لهم جنودكم التحية العسكرية.

والشرط الثاني، وهذا هو المهم: أن يعيد الفرنسيون بناء ما تهدم من المنازل، وما تخرب من المزارع، وتعويض الأهالي (ماديا وغذائيا) عن كل ما لحق بهم من الجور.

وختم كلامه قائلا: إذا وافقتم على ذلك فكان بها، وإذا رفضتم فسوف نقاتلكم إلى آخر رجل، ثم قدم له ورقة شروطه مكتوبة.

فاستمهله القائد الفرنسي (غرانميزون)، واجتمع بأركان قيادته، وبعد ساعات أعاد له الورقة موقعة بالموافقة على ما طلب.

عندها فتح (باولي) الباب على مصراعيه، وانطلق يخطو بمشية عسكرية وهو يقرع طبلته وسط صفين طويلين من الجنود الفرنسيين المؤدين للتحية العسكرية، فاستوقفه القائد يسأله عن بقية الحامية من المدافعين!

فأجابه: عن أي حامية مدافعة أنت تسأل؟! أنا الحامية وليس هناك أحد غيري.

فصعق القائد وصاح به قائلا: لقد خدعتني، وسوف يهزأ بي الجميع، وسينظم بي الشعراء الأغاني والأناشيد، وكنت أتمنى الموت على هذا العار.

وفعلا ما هي إلا عدة أيام حتى أقيل من منصبه، وأطلق عليه الناس القائد (comp) - أي الغبي.

لكن فرنسا اضطرت أن تفي بأهم شروط الاتفاقية، فبنت كل ما تهدم، وأصلحت كل ما تخرب، وتحسنت أحوال الأهالي ومعيشتهم، وأصبح (باولي) بطلا قوميا تهفو إلى قربه كل قلوب البنات.

[email protected]