مثنى وثلاث

TT

كلما حلت ذكرى غياب عاصي الرحباني عاد كتَّاب لبنان يكتبون عنه ما فاتهم أن يكتبوه في التذكارات الماضية. ولا يزال عاصي يملأ حياة لبنان شعرا وموسيقى. فإذا كان هو أعظم ما حدث للموسيقى والتأليف واللحن، فقد أعطيت عبقريته أعظم ما أعطي للغناء: صوت فيروز.

ترك عاصي ومنصور سرّا تتسلى به عقول الناس: من كان يلحن ومن كان يكتب الشعر والمسرحيات. طالما طرحت السؤال على منصور، وكان رده واحدا: أنا وعاصي. طالما قيل إن عاصي هو الأصل، شعرا وموسيقى، ومنصور هو الفرع. لكن بعد وفاة عاصي راح منصور، منفردا، يؤلف ويلحن ويكتب المسرحيات الجميلة. فلماذا إذن، لم يلق الألق الذي كان يلقاه «الأخوان» رحباني؟

الجواب بسيط، لأن ثالثة الأخوين رحباني كانت فيروز. وفيروز خرجت من المثلث بعد فداحة الغياب. فعاصي لم يكن زوجها فقط، ولا فقط مكتشفها، بل كان المعلم الذي دربها على الحضور الغنائي النادر. لكن العائلة أصيبت بدراميات الفنون. وافترق عاصي وفيروز في الحياة وفي المسرح. وذهبت هي إلى رياض السنباطي يلحن لها، بينما ذهب عاصي إلى «رونزا» يحلها محل فيروز. وكانت النتيجة ما هو متوقع في قدريات الحياة: أخفق السنباطي، ملحن أم كلثوم، في معرفة أوتار فيروز، وفشل عاصي ورونزا معا.

أبقت فيروز الأغاني الثلاث التي لحنها لها السنباطي بين شلة من الأصدقاء. واختارت حياة العزلة وعالم الأمومة. وهو أيضا عالم فيه حزن مثل مواويلها القمرية. وبعد عاصي سلمت صوتها إلى ابنه، زياد. واستغرب الناس في البداية، النقلة بين الأب والابن، لونين من العبقرية ونقيضين. والابن لا يريد أن يشبه الأب ولا عصره ولا عالمه. لكن ماذا يفعل الذين لا يزالون من عصر عاصي وعالمه؟ في ذلك العالم، كان عاصي، عندما يشعر أنه لم تعد هناك آلة موسيقية قادرة على الارتقاء إلى صوت فيروز، يأمر الفرقة بالتوقف، تاركا لها، منفردة، أن تشدو، وأن تحرك في الناس ذلك المزيج الفريد من الفرح والدمع وخدر الطرب.

كان عاصي ومنصور رجلين في عبقرية واحدة. صدفة تاريخية ثنائية تحولت إلى ثلاثية رائعة. وقد لحن كثيرون لفيروز وكتب لها آخرون، لكن اسمها ظل ملتصقا بالرحابنة، كما التصق اسم أم كلثوم بأحمد رامي رغم عدد الشعراء. ولما توفيت، قيل إنه دخل إلى حزنه حتى مات.