الفكرة التي طاردتني!

TT

كنت على موعد مع غروب الشمس في الإسكندرية.. وأنا حريص على المواعيد.. والشمس لا تزال أجمل فتاة في عالمنا.. إنها حواء الأولى.. إنها مصدر حياة كل حواء وكل آدم.. وكل حواء في النبات والحيوان.. إنها أول كل شيء في عالمنا الصغير.. وانطلقت من القاهرة على عجلات سرعتها مائة كيلومتر.. وبدأت السير بهمة وحماسة وأعراض ملل وأعراض خوف ولكن حاولت أن أنسى هذا كله والتفت إلى الطريق أمامي.. وإلى جواري جلس صديق هادئ لا يتحدث إلا قليلا.. وفي المقعد الخلفي جلس صديقان.. أحدهما يدخن صامتا والآخر ينام كطفل بلا هموم ولا متاعب.. وهكذا بدأت رحلتنا هادئة سريعة..

وفجأة قفزت إلى رأسي فكرة سخيفة.. فكرة مؤلمة.. الفكرة هي: أن قلبي «حاسس» أنني سأموت في هذا الطريق!!

وأخذت الفكرة تقوى وتقوى.. ولم يحدث لي هذا أبدا.. وقلت لعل رادار القلب قد أحس بشبح الموت وهو على بعد دقائق أو أميال مني.. هل أرجع؟ أرجع إلى أين؟ لا هرب من الموت!! هل أعود بهؤلاء الأصدقاء الذين بدأوا يضحكون وكأنهم يعرفون ما يدور بخاطري!!

وتساءلت: ولماذا جاءت هذه الفكرة؟ ومن أين؟ هل أنا متعب.. إنني فعلا لم أنم ليلة أمس.. هل أنا كاره لهذه الرحلة.. فعلا أنا أكره قيادة سيارتي مهما كانت المسافة..

وكأني أقاوم هذا كله.. بدأت أعتدل في جلستي وأتنفس بهدوء.. حتى يبقى القلب نشيطا يدق.. ومددت يدي إلى الراديو ففتحته لأرفع روحي المعنوية..

واعتدلت مرة أخرى في جلستي وقلت: إن هذا التفكير في الموت هو وحده الذي سيجعلني أموت، هو وحده الذي سيشغلني عن القيادة فأصطدم بأية سيارة.. ولذلك يجب أن أطرد هذا التفكير..

وكأنني أحسست أنني لم أحقق كل شيء في نفسي، قلت: عندما أصل إلى الإسكندرية سأنزل البحر.. إنني لم أنزل بحرا في حياتي.. إن مياه كابري لم توقعني في غرامها ولا أمواج دوفيل ولا فتيات كان ونيس..

وعلى الكورنيش أحسست بشيء غريب.. أحسست أن الهواء يفصل لي ملابس كلها من قماش مبلل.. وأن الهواء كأي ترزي يستخدم الدبابيس لتظل الملابس على جسدي فهو يضع الدبابيس في كتفي وفي جنبي وفي ظهري وفي صدري.. وظللت أنا أتكرمش وأتقلص حتى صغر حجمي..

وتعبت من الطريق ومن الهواء وذهبت إلى غرفتي لأستريح.. لأستريح من الفكرة التي طاردتني.. وعندما وضعت رأسي على «المخدة» تنبهت إلى أنني طردت فكرة الموت بالاستسلام له.. أليس النوم موتا صغيرا!