أولمبياد اللغة التركية.. غولان مر من هنا

TT

مرة أخرى يحل منتصف يونيو (حزيران) في تركيا، ومرة أخرى تنطلق تصفيات الأولمبياد العالمية للغة التركية، التي تعكس حجم الصعود والانتشار التركي المتزايد إقليميا ودوليا، ولكن بوجهها الخدماتي والإنساني والثقافي تحديدا.

العدد ارتفع هذا العام إلى أكثر من ألف مشارك قدموا من أكثر من 130 بلدا تنتشر فيها المدارس التركية التي تسهم في تلقين تلامذتها لغة المحبة والتقارب والتسامح. طلاب يمثلون بلدانهم لكنهم يمثلون أيضا مدارسهم التي أنشئت في تلك البلدان بإشراف مدرسين أتراك ومحليين أرادوا أن يكونوا جسور تعارف وتقارب جنبا إلى جنب مع رسالة نشر العلم والمعرفة.

التجربة التاسعة لأولمبياد اللغة التركية تحمل مساهمات فتيان وفتيات جاءوا يروجون لبضاعتهم ويعرفون بما تعلموه فيقولونه شعرا ونثرا ويتبارون في تقديمه إنشاء وإنشادا باللغة التركية. صناع القرار هنا هم مئات الشبان الأتراك، حملوا حقائبهم وتحركوا إلى أبعد مدن المعمورة في رسالة المساهمة في محاربة الفقر والعوز والجهل، على الرغم من كل الصعوبات والمشقات التي تزول وتتحول إلى فرحة إنجاز المهمة عندما يصفق ملايين الأتراك للبادرة والحدث.

الجوائز التي توزع على الفائزين تبقى رمزية جدا أمام قيمة ما يجري، فاللجنة التنظيمية قررت استضافة الوافدين من الخارج في الكثير من المدن التركية ليقولوا ما عندهم وينقلوا حضارات بلادهم إلى الأتراك ويتعرفوا في الوقت نفسه إلى سكان هذه المدن وثقافتهم ومعيشتهم اليومية. استراتيجية تقارب وتداخل تحمل الكثير من الدروس والعبر حول «العثمانية الجديدة» التي يبدو أن هيئات المجتمع المدني تنافس الحكومات فيها وتسبقها بخطوات في تحركاتها، وربما هذا هو السبب الرئيسي الذي دفع بالبعض داخل تركيا وخارجها لانتقادها ومهاجمتها وإطلاق العنان لمخيلته حول ما تقوم به.

آلاف الشبان الأتراك درس معظمهم في تلك البلدان وتخرج في جامعاتها، لكنهم قرروا البقاء هناك والتحول إلى سفراء لبلدانهم وحلقة وصل ثقافي وإنساني بين الجانبين لم تتردد البلدان المضيفة بقبول خطوة من هذا النوع والترحيب بها كونها تسهم في الانفتاح والتقارب.

شبان أتراك حملوا حقائبهم وعزمهم على عدم العودة قبل إكمال الرسالة في مدن وأقضية لم يسمع الأتراك بها ويصعب عليهم تحديد مواقعها على خارطة القارتين الأفريقية والآسيوية. المدن الأكثر حرا والأشد بردا تنتظرهم وهم يعرفون ذلك، لكنها حركة طوعية غايتها حماية ما يجمعنا من قواسم مشتركة دينية وثقافية وأخلاقية لا بد من الذود عنها.

الأولمبياد التركية السنوية بات لها الكثير من المتابعين والمعجبين والمتحمسين في تركيا وخارجها، وخشبة المسرح تحمل التساؤل الوحيد: ما الذي قد يجمع فتيانا وفتيات من سريلانكا والصومال والسودان والنيجر وإندونيسيا وياقوتسان وأربيل والقاهرة سوى قرار محاربة الجهل والفقر وإرادة المشاركة في تحديد المصير؟ قد يختلف لون البشرة والقوميات والأعراق، لكن التسميات متشابهة في أكثر الأحيان والنشيد واحد، كما رأينا في الاحتفالات الختامية للمسابقات «الدنيا التي نريد».

حتى الأمس القريب كانت الإرساليات الغربية هي التي تتحكم وتقرر سياسات ومناهج التدريس في بلادنا وطريقة تفكيرنا، أما اليوم فنحن أمام حالة مختلفة لناحية إعادة ترتيب الأولويات والاستراتيجيات التي تعنينا وحدنا كشعوب ودول في هذه المنطقة. هم يلوحون بعلم بلادهم بيد، لكنهم يلوحون بالعلم التركي بيدهم الأخرى، تقديرا للتضحيات التي يقدمها هؤلاء الشبان الأتراك في الغربة، ربما هو الجواب الأقصر للباحثين عن أسباب الصعود التركي في السنوات الأخيرة.

المعادلة التي رفعها رجل الدين والمفكر فتح الله غولان «الخوجا أفندي»، الأب الروحي لجماعة النورسية التي تقود هذه الحملة وتديرها، لا تقل قيمة وأهمية عن رسائل داود أوغلو «الخوجا» أو منظر السياسة الخارجية الجديد، فغولان الذي يرجح التمسك بعدم العودة من منفاه القسري في الولايات المتحدة يثبت هنا أن الدفاع عن اللغة الأم لا يكفي أن يكون عبر حمايتها وتحصينها داخل حدودها بل إطلاقها ونشرها في بلدان العالم تعرف بنفسها وتكون وسيلة انفتاح وتقارب.

داود أوغلو وهو يضع اللمسات الأخيرة على مؤلفه حول «العمق الاستراتيجي» كان قد اطلع حتما على آخر مؤلفات غولان التي تدعو لنشر الألفة والحوار بين الشعوب كرد لا بد منه على كل أفكار الشدة ولغة العنف التي لا علاقة للإسلام والمسلمين بها.

أحمد بربر، قارئي المتابع، سيغضب مرة أخرى ويقول: أنت تنظر للتركية ونشرها في العالم بينما الملايين من أكراد تركيا ما زالوا ينتظرون أن يتحدثوا ويكتبوا ويدرسوا بلغتهم الأم.. هو على حق أيضا.