لا رغيف.. لا أمان

TT

الارتفاع المهول والمتواصل لأسعار المواد الغذائية أصبح هما خطيرا على الحكومات ويساهم بشكل مباشر في الاضطرابات والقلاقل الاجتماعية. وهناك تحليلات محترمة تشير إلى أن هذه الأوضاع كانت أحد أسباب الربيع العربي وثوراته، وخصوصا في تونس ومصر وسوريا. فأسعار المواد الغذائية، التي تتواصل في الارتفاع بشكل مستمر منذ عام 1984، بلغت مستويات قياسية، وكانت المظاهرات كلها ترفع رغيف الخبز، في دلالة على سوء الوضع المعيشي وعدم مقدرة الناس على شراء أبسط احتياجاتهم. وهناك أسباب عديدة لارتفاع أسعار السلع الغذائية، بعضها مؤقت مثل: القحط والجفاف الشديدين في روسيا والأرجنتين، والفيضانات الكبيرة في كندا، والتقلبات المناخية الحادة في أستراليا، والسيول الهائلة في باكستان، وحظر التصدير في بعض الدول الزراعية لتغطية احتياجاتها المحلية، وكذلك الشراء العاجل والمضطرب والفوري من بعض الدول والتجار لتغطية أزمات الطلب والاحتياج، وكذلك هناك أسباب التخزين وتجميع أكبر قدر من الكميات كاحتياطي للأزمات، ولكن هناك أسباب أخرى خارج النطاق الزراعي المباشر تفاقم الأزمة وتزيدها سوءا بشكل واضح، فضعف الدولار الأميركي يجعل تخزين المواد الغذائية الأولية بالعملات المحلية أرخص وبالتالي أسهل بكثير، وهناك طبعا عامل الارتفاع الكبير في أسعار النفط يدفع بأسعار المضافات الكيماوية إلى أعلى، فالاحتياج هائل إلى الطاقة لصناعة الأسمدة، وبالتالي هذا يرفع التكلفة بشكل هائل. ولكن هناك أيضا لوما كبيرا على المضاربة، فغير خاف أن مديري المحافظ الاستثمارية في كبرى الدور المصرفية حول العالم يضاربون على أسعار السلع الغذائية وعلى أسهم الشركات المنتجة لها، مما يدفع بالأسعار إلى مستويات عالية جدا هي الأخرى، وهي المسألة الخطيرة التي أجبرت الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، وبلده زراعي وبامتياز، على أن يهدد من موقع بلاده كرئيس حالي لمجموعة العشرين ويتوعد «المضاربين الشريرين» ويحذر من خطرهم على استقرار الاقتصاد الغذائي العالمي.

ولكن هناك تطورات مهمة جدا؛ عناصر الطلب لا يمكن إنكارها، فمع النمو الاقتصادي والسكاني الكبير لكل من الصين والهند، فإن الطلب فيهما في ازدياد وهو يؤثر بشكل كبير جدا على إمكانية وقدرات الإنتاج، وحتى هذه اللحظة يبدو أن الدولتين مكتفيتان ذاتيا من إنتاجهما المحلي، إلا أن ذلك مرشح لأن يتغير بعد أن يصلا إلى حدودهما القصوى للإنتاج، لأن هناك حديثا متزايدا عن إمكانية استيراد الصين للقمح بداية من هذا العام، وهذا سيكون له وقع مهم جدا على السوق ولا شك. ه

ناك تقديرات «مرعبة» أن حجم الإنتاج الزراعي الغذائي يجب أن يرتفع بنسبة 70% في عام 2050 حتى يمكنه أن يتواكب مع معدلات الطلب المتزايدة وهو سيناريو مخيف وغير ممكن. كل ذلك متوقع بسبب نسب النمو السكاني المتزايدة، وتطور اقتصاديات الأسواق الناشئة، وازدياد السكان في المدن الكبرى حول العالم مثل: القاهرة، ومانيلا، وجاكارتا، وطوكيو، ونيويورك، ولندن، ولوس أنجليس، ومكسيكو سيتي، ولاغوس، وبومباي، وشنغهاي. كذلك لا يمكن نسيان آثار التغيرات المناخية المستمرة والآخذة في التطور النوعي دائما، وتواصل الكوارث البيئية بأشكالها الحادة ودمارها الهائل وتوسعها الجغرافي. ولأول مرة منذ الستينات الميلادية من القرن الماضي، تبلغ نسبة النمو في القمح والشعير والأرز أقل من نسب نمو المعدل السكاني العالمي، وبالتالي اليوم العالم غير قادر على تغذية سكانه، البالغ عددهم 7 بلايين نسمة، بشكل سليم ومتوازن ومتواصل، فكيف سيتمكن من تقديم الطعام لهم في عام 2050؟! سؤال في غاية الخطورة والأهمية، وليس خافيا حجم الاستثمارات والأبحاث المهول والصرف الكبير على تطوير أساليب الري، وتحسين قدرة استخدام الأراضي، وتنمية الكيماويات الزراعية لإنتاج محاصيل أكثر وأسرع، وهو ما سيجعل بالتالي استخدام الوقود المستخرج من المحاصيل الزراعية مسألة لا داعي لها ولن يسمح لها أخلاقيا في ظل الاحتياج الكبير في العالم. وهذا أيضا سيضيف أعباء اقتصادية وسياسية وضغوطا شعبية على أن تحسن الدول العربية، مثل العراق وسوريا ومصر والسودان والمغرب والجزائر، من سياساتها المائية والزراعية، لأن القادم من الأيام لا يبشر بالخير.

[email protected]