من المستفيد مما يجمع ويفرق بين الشيعة والسنة العراقيين؟

TT

ما يجمع بين الشيعة والسنة العراقيين، هذه الأيام من نقاط التقاء، حصلت عفوا وتتقاطع مع المألوف من الإجماع وما يرمي إليه، كما سنرى، ولنأخذ على سبيل المثال موقفهما حيال الكويت؛ إذ لا يخفى أن الحكام العراقيين السنة نادوا في مختلف العهود بـ«عراقيتها».. فلقد لمح نوري السعيد إلى ذلك في العهد الملكي، ولدى بعضهم أنه أثار بذلك حفيظة الإنجليز، وعد ذلك أحد أسباب انقلاب 14 يوليو (تموز) 1958 إذا علمنا أن فترة قصيرة فصلت بين تلميحه والانقلاب على نظامه. أما عبد الكريم قاسم، ففي خطوة منه مصنفة على أنها طيش، اعتبر الكويت قضاء عراقيا وخطط لضمها، لكن حكمة من كلفهم باحتلالها أفشلت خطته برفضهم تنفيذها. ومن بعده تولى صدام حسين تحقيق ما عجز عنه السعيد وقاسم، فاحتلها وأعلنها المحافظة رقم 19، وبقية الحكاية معروفة وانتهت بقضاء «لعنة الكويت» عليه. وخيل لبعضهم، أنه بعد القضاء عليه طويت صفحة الطيش والتهور. ولم يؤخذ على محمل من الجد الإصرار العبثي للمعارضين السنة على بقائها مفتوحة ضمنا، إلا أنه وبدخول الصراع الطائفي الشيعي - السني على الخط وتفاقم التوتر بين إيران وجاراتها الدول العربية باستثناء العراق، فإن مواقف النخب القائدة للطائفتين المشحونة بالعداء للكويت، راحت تغذي الطيش ذاك، الذي غذته خلافات جديدة بينها وبين العراق؛ منها حدودية، وأخرى مائية، فديون مستحقة للكويت، واعتزام الكويت بناء ميناء «مبارك»، فدعوات عراقية للرد بالمثل ببناء ميناء الفاو، سبقتها سلسلة من المواقف المتبادلة المتسمة بالخصومة لإيران ودول عربية ضد بعضها بعضا، انعكست سلبا على العلاقة بين الطائفتين باتجاه مزيد من التدهور.

ومن نقاط الالتقاء المشتركة بينهما التي تستدعي التوقف عندها رفض تمديد بقاء القوات الأميركية في العراق الذي يكاد يكون شعارا استراتيجيا للنخب السنية العراقية منذ عام 2003 لا تحيد عنه، سيما البعث المحظور، التي اعتقدت أن تلك القوات تحول دون استردادها للسلطة، ناسية أنها اغتصبتها في الماضي مرة بواسطة قطار إنجليزي وأخرى أميركي، علما بأن الأميركان حرصوا على انتهاج التوازن بين المكونين الشيعي والسني الذي ساهم في حماية السنة من الإبادة، التي كانت ثقافة العنف والإبادة تمليها في التحولات السياسية الكارثية والعنيفة في العراق، ولقد شذ عنها الاحتلال الأميركي بحق. عليه، فإن رحيل القوات الأميركية سيحدث حتما اختلالا في ذلك التوازن لصالح إيران والقوى السائرة في ركابها.

إن احتماء المعارضين السنة العراقيين بالنظام السوري ووجود أعداد ضخمة منهم في سوريا وفي أجواء الثورات والانتفاضات العربية التي امتدت إلى سوريا أيضا، جعل أولئك المعارضين من حيث يدرون أو لا يدرون في الخندق الإيراني الداعم لذلك النظام، في حين أن انهيار النظام العلوي السوري، هو لصالح السنة العراقيين في المستقبلين المنظور والبعيد، ولقد كان الأجدر بالنخب السنية العراقية التفاعل والاستجابة للتطورات في سوريا بمثل ما استجابت لها تركيا وحماس مع ظهور أولى بوادر الثورة على النظام السوري.

وعلى الصعيد العراقي، ثمة أكثر من نقطة التقاء بين المكونين تؤدي إلى النتائج نفسها للنقاط التي ذكرناها؛ فالنخب السنية بقيت وفية لنهج حكوماتها البائدة في التعامل مع القضايا العراقية الداخلية الملتهبة، والتقت من حيث لا تعلم مع الحكومة العراقية في الموقف من المادة 140 الخاصة بحل مشكلة المناطق المتنازع عليها والإحصاء السكاني العام.. إلخ من القضايا الداخلية. واللافت أن النخب السنية تبز الحكومة العراقية في استفزاز الكرد إلى درجة نفيها للفيدرالية واعتبار المادة تلك ملغاة، وهو ما لم تقدم عليه الحكومة العراقية، ناهيكم بدخولها (النخب السنية) في صراع مرير مع الكرد في المناطق المتنازع عليها، وهذا ما أرادته وتريده الحكومة العراقية والإيرانية كذلك، فالموقف السني يبدو وكأنه تطوع مجاني لتحقيق مرامي تلكم الحكومتين، جراء تغليب التناقض الثانوي مع الكرد على التناقض الرئيسي مع الحكومة العراقية. ومن تداعيات قصر النظر السني، إن جاز القول، حجبه في الموصل لحق قائمة «نينوى المتآخية» الكردية عن المشاركة بإدارة الحكومة المحلية هناك، والتي تمثل أكثر من مليون مواطن، في وقت يميز فيه الكرد، خلافا للسنة، ببعد النظر عندما أشركوا ممثلي السنة والتركمان في إدارة شؤون حكومة كركوك المحلية. ونتيجة هذا الموقف من النخب السنية المرحب به من قبل كلتا الحكومتين المذكورتين، فإن الحكومة العراقية شددت من قبضتها على الموصل وهي من أكبر القلاع السنية للسنة العرب والكرد، ويتجلى ذلك في نشر قوات عسكرية وفي ما بعد بوليسية موالية لبغداد فيها، وسط تهميش لحكومة الموصل المحلية. وبلغ الأمر حد قيام القنصل الإيراني في أربيل بزيارات خاطفة إلى الموصل آخرها تلك قام بها إلى مدير الشرطة العام فيها والمعين من قبل المالكي، والذي، أي التعيين، أثار ضجة كبيرة على المستويين الحكومي والشعبي الموصليين، وكتحصيل حاصل لما وقع، فقد انشق الصف السني في الموصل بين ميال للكرد وآخر لبغداد رغم الفارق بين الاثنين. وفى كركوك أيضا وللسياسات السنية نفسها، فإن الخلاف اتسع بين ممثلي العرب السنة والتركمان، والذي كان متوقعا، وكان من تداعياته تنصيب تركماني شيعي رئيسا للجبهة التركمانية العراقية، وبهذا ضربت الحكومتان العراقية والإيرانية عصفورين بحجر واحد، إن جاز التشبيه: تركيا والسنة في آن معا.

ونظل مع المشتركات الغربية من نوعها بحق التي ولدت علاقة غير متكافئة بين المكونين مثل الموقف من منظمة «مجاهدين خلق» الإيرانية. فبعد أن عرفت النخب السنية بتعاطفها الشديد مع هذه المنظمة لعقود من السنين، فإن الغريب في الأمر أنها بعد المجزرة التي ارتكبتها القوات العراقية بحق مقاتلي المنظمة في معسكر «أشرف» بمحافظة ديالى، فإن النخب السنية ردت مقترحا لإيواء «مجاهدين خلق» في محافظة نينوى ذات الغالبية السنية، ولا شك أن موقفا كهذا منها سيشجع إيران لتصفية المعارضة الكردية الإيرانية الموجودة في العراق أيضا.

لقد كان متوقعا، أن تفضي سياسات النخب السنية العراقية إلى التخبط واللاتوازن، لأساب كثيرة؛ منها تمسكها بالموروث السياسي لنظم الحكم السنية العراقية السابقة، فتعاملها مع القضايا الداخلية والإقليمية والدولية، تعامل حكومة لا معارضة، وكذلك الانشغال بأمور جانبية وثانوية، وعدم معرفتها لحجمها الحقيقي؛ إذ شتان بين ما كانت عليه في الماضي يوم كانت حكومة، وما هي عليه اليوم وهي معارضة، ولا ننسى أن العراقيين؛ شيعة وسنة، في ما يجمعهم ويفرقهم بالشكل الذي عرضنا له واستقواؤهم بأطراف إقليمية وعلى وجه الخصوص إيران وتركيا، سوف يعضون بسببه أصابع الندم، يوم تنجز تركيا مشاريع «كاب» على نهري دجلة والفرات، ويوم تنجز إيران برامجها الطائفية والبرنامج الذي تريده أن يتوج بالقنبلة النووية. وإذا مضى الحال على هذا المنوال، فسنشهد في المقبل من الأيام مزيدا من التحول بالشكل الذي رأيناه للنخب السنية في مواقفها، مقابل ثبات أشد للحكومة العراقية على مواقفها المتصلبة التي تضر بالشيعة والسنة والكرد سواء بسواء.. وإن غدا لناظره قريب.

* رئيس تحرير جريدة

«راية الموصل»