المساواة.. قبل الإلغاء

TT

أن تهب رياح التغيير على تونس وليبيا ومصر وسوريا وحتى اليمن.. ولا «تمر» بلبنان – بلد الإشعاع والنور قبل أن ينكشف زيفهما - أمر، كما يبدو، لا يستسيغه الشارع اللبناني المتحمس لشعار «إسقاط النظام»، والمحتار في انتقاء أي نظام يسقط.

مثله مثل مصر، شعب لبنان شعب شاب في أكثريته العددية، ناقم في قرارة نفسه على وضع بلاده وعلى الفساد والمحسوبية والبطالة والحاجة والتمييز المذهبي.. وفوق كل ذلك «أزلية» الطبقة الحاكمة منذ فجر الاستقلال.

كثيرة هي دواعي الانتفاضة في لبنان. ولو كان الشيء بالشيء يذكر في عالمنا العربي، لسبق لبنان كل دول الجوار في الثورة على نظام حكم فريد من نوعه في عالم الديمقراطيات: نظام تتداخل فيه «المحاصصة الطائفية» مع «الاستنساخ السياسي»، بحيث أصبحت الظاهرتان بمثابة بنيان مرصوص، يشد بعضه بعضا، خصوصا في ذهنية الأقليات المذهبية التي تربط نفوذها في لبنان بنفوذ عائلاتها السياسية.

على هذه الخلفية، أصبحت اللعبة الديمقراطية في الممارسات السياسية للأقليات اللبنانية - مثل الموارنة والدروز والكاثوليك - مقصورة على تبديل الاسم الأول فقط لممثلها في السلطة والإبقاء على أسماء «العائلات السياسية» على حالها تتوارث أمجاد الحكم أبا عن جد. ولولا بعض الاستثناءات لأمكن القول إن العملية الانتخابية، بالنسبة لهذه الأقليات، هي أقرب إلى عملية إعادة تطويب لزعاماتها التقليدية.. ولكن بالاقتراع المباشر.

إلا أن هذه الممارسات تبرر الحديث عن نظامين طائفيين في لبنان: نظام تمييزي شامل يهدر الكفاءات لمصلحة الحصص المذهبية، ونظام أقل وضوحا، ولكن أكثر حساسية، يوظف لحماية الأقليات المستظلة بزعاماتها التقليدية من هيمنة الأكثريتين الطائفيتين في البلاد - تحديدا السنة والشيعة - على السلطتين التشريعية والتنفيذية في حال اعتماد الديمقراطية العددية قاعدة لانتخابات نيابية تجرى على قاعدة غير طائفية؟

من هنا التمني في أن يلتزم القيمون على «الحملة المدنية لإسقاط النظام الطائفي» في لبنان مقاربة أكثر جدية لمطالبتهم بإلغاء الطائفية السياسية في لبنان، ليس فقط للتوصل إلى تحديث نظامه السياسي بل لنقله أيضا من وضع الدولة المحبطة إلى وضع الوطن النهائي لكل أبنائه. غني عن التذكير بأن الحملة الراهنة لإلغاء الطائفية السياسية تكتسي حساسية خاصة كونها تجري في ظل متغيرات ديموغرافية واضحة، داخل لبنان، وعلى خلفية تحولات مرتقبة في موازين القوى، خارجه. ولكن حماس الشباب وآمال الطوباويين لا تكفي للإطاحة بنظام مترسخ في لبنان منذ أن وجد لبنان. أي مشروع جدي لإسقاط النظام الطائفي في لبنان لا يكتمل فصولا ما لم يترافق مع حملة تنشئة ديمقراطية لأجياله المقبلة تكون سليمة ومدروسة. هذه التنشئة تستوجب اعتماد مقاربة طويلة الأمد، بعيدة عن الغوغائية، لعلمنة النظام السياسي اللبناني تدريجيا. مرحلتها الأولى قد لا تكون قبل إلغاء الطائفية من النصوص بشطحة قلم بل تأمين شكل من أشكال المساواة الطائفية على مستوى السلطة بين كل اللبنانيين. مساواة كهذه من شأنها تقريب فكرة المشاركة الوطنية في الحكم بصرف النظر عن أحجام الطوائف اللبنانية وبالتالي التمهيد لإقرار نظام سياسي غير طائفي.

على هذا الصعيد تشكل الفقرة المهملة من اتفاق الطائف المدخل المرحلي – والدستوري - لانتقال تدريجي من نظام طائفي تمييزي إلى نظام طائفي متوازن، أي الفقرة التي تنص على إنشاء مجلس شيوخ يتساوى فيه التمثيل الطائفي لكل أبناء المذاهب اللبنانية بصرف النظر عن حجمها، على أن يعطى المجلس صلاحيات تضمن المشاركة الفعلية لكل ممثلي الطوائف اللبنانية في إدارة شؤون بلدهم.

في غضون ذلك لن يكون صعبا إقرار نظام انتخابات جديد، خارج القيد الطائفي، يعتمد التمثيل النسبي ويقوم على الهوية الحزبية لا المذهبية.