أمين معلوف في الأكاديمية الفرنسية!

TT

إنه لخبر مفرح حقا انتخاب أمين معلوف في الأكاديمية الفرنسية محل المفكر الشهير كلود ليفي ستروس. إنه يشرف الأكاديمية بقدر ما تشرفه وليس صغيرا عليها. هل أصبحت جائزة نوبل على الأبواب؟ على أي حال كل شيء يجيء في وقته.. من كان يتوقع أن هذا الصحافي الذي وصل إلى باريس قبلنا بقليل أو حتى بعدنا سوف يصبح أحد أعلام الأدب والفكر العالمي؟ أعتقد شخصيا أنه يستحق هذا التكريس لسببين أو ربما ثلاثة: أولها أنه نجح على كلتا الجبهتين الأدبية والفكرية.. يكفي أن نذكر هنا «صخرة طانيوس» و«أصول» في ما يخص الأولى، ثم الهويات القاتلة فيما يخص الثانية. لقد جمع المجد من كلا طرفيه، وأثبت أنه من سلالة جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وكل أولئك العباقرة الذين صنعوا مجد لبنان والآداب العربية. وثانيها أنه يمثل أنجح جسر ثقافي بين كلتا الضفتين كما كان يحلم جاك بيرك ومحمد أركون. وإذ أقول ذلك لا يعني أنني أقلل من أهمية عبد الوهاب المؤدب أو الطاهر بن جلون أو مالك شبل أو محمد ديب أو إدريس الشرايبي أو عشرات غيرهم.. لقد استطاع القضاء على أسطورة صدام الحضارات عن طريق تجسيد تلاقي الحضارات واللغات والثقافات بشكل رائع في شخصه المبدع بالذات. وثالثها أن أمين معلوف يحمل الهم اللبناني والعربي على كتفيه عن طريق تفكيكه لكل النزعات الطائفية والعنصرية التي دمرت لبنان والعالم العربي ولا تزال تهدده بأفدح الأخطار. وبالتالي فهو قطعا أحد كبار التنويريين العرب وإن كان يكتب بالفرنسية. فهمومه عربية بالدرجة الأولى، وإن كان استطاع أن يرتفع بها لاحقا إلى مرتبة الكونية والنزعة الإنسانية الشاملة. من يقرأ هذه الكلمات قد يتوهم أنني من أصدقائه المقربين، أو أنني أشرب القهوة معه كل يوم!.. في الواقع أنا لا أعرفه شخصيا، ولم ألتق به مرة واحدة في حياتي، ولهذا السبب فإنني أستطيع التحدث عنه بكل حرية.

أكتب عنه بحماسة لأنني استمتعت كثيرا بقراءة كتابه «أصول» الذي هو عبارة عن سيرة ذاتية له ولعائلته وللبنان والمنطقة بأسرها. كل هموم المنطقة وخروجها الصعب والبطيء من عصر الظلمات العثمانية إلى عصر الأنوار الحديثة تنعكس في هذا الكتاب الجميل الذي يشدك إليه شدا والذي يشبه الرواية البوليسية أحيانا. إنه كتاب أدبي وفكري في الوقت ذاته. يعجبني هذا النوع من الكتب التي تحقق في الضربة الواحدة عمق الفكر وجمال الأسلوب. يضاف إلى كل ذلك سبب رابع ربما، وهو أن أمين معلوف على عكس الآيديولوجيين العرب قادر على أن يخرج من نفسه، أن ينفصل عن نفسه، لكي يرى «الآخر كذات» كما يقول الفيلسوف بول ريكور. لقد مللنا من نزعات الانغلاق على الذات والهويات القاتلة. مللنا من هؤلاء المثقفين أو بالأحرى أشباه المثقفين الذين لا يرون في الآخر إلا عدوا محتملا والذين في حياتهم كلها لم يطرحوا سؤالا واحدا على أنفسهم، في حياتهم كلها لم يعرفوا معنى اشتغال الذات على ذاتها أو مراجعة الذات لذاتها. الآخر هو دائما الطائفي وليس أنا، الآخر هو دائما العنصري وليس أنا. معاذ الله!.. ليس معقولا أن أكون أنا طائفيا أو أن تكون تربيتي خاطئة في بعض جوانبها بسبب ظروف الماضي والظلام. كيف يمكن للفكر العربي أن يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام بهذه الطريقة أو بهذه العقلية؟ من هذه الناحية فإن أمين معلوف شخص مهم جدا وضروري لأنه يدعونا إلى توسيع عقليتنا ولو قليلا وإلا فسوف نظل نذبح بعضنا بعضا على الهوية إلى ما شاء الله. هل نستطيع أن نعيش في جو الكره والحقد إلى ما لا نهاية؟.. هل هذا عالم يطاق؟.. هل هذه حياة؟.. من يستطيع أن يعيش في المشرق العربي حاليا: هذا المشرق المنكوب بالويلات منذ قرون والذي نحمل همه على كتفينا؟.. كتاب «الهويات القاتلة» لأمين معلوف ذو أهمية كبرى في هذا المجال. العنوان في حد ذاته من أنجح العناوين. إنه يلخص مرحلة بأسرها، مرحلة لا تزال تتوالى فصولا حتى الآن.

لكن أمين معلوف لا ينتقد الشرق فقط وتخلفه وظلاميته وعدم قدرته على الخروج من جموده المزمن وعصور انحطاطه الطويلة.. وإنما ينتقد أيضا الغرب وخيانته للتنوير الذي يرفع رايته ظاهريا ويفعل عكسه فعليا في أحيان كثيرة. بل إن نقده للغرب أقسى لأنه غير معذور على الإطلاق.. فهو متطور ومتقدم ومثقف وغني إلخ.. وكنا نتوقع منه شيئا آخر. كنا نتوقع نزعة إنسانية أرقى وأكثر اتساعا وشمولا. كنا نتوقع ألا يتوقف في تطبيقه لمبادئ الحرية والديمقراطية والنزعة الحضارية والإنسانية عند حدوده الجغرافية فقط. أما الشرق، شرقنا الحزين، شرقنا الحبيب، فلا يزال يتخبط في متاهات الفقر والاستبداد والأنظمة الشمولية، ولا يزال شبح المجاعات والحروب الأهلية يخيم عليه، ضد هذا القهر، ضد هذا الفقر، ضد هذا الجهل والرعب التاريخي ينهض أدب أمين معلوف وفكره.