زنقة العقل العربي

TT

كان وليد جنبلاط أول من استخدم تعبير «الانزناق» في السبعينات عندما سألته مجلة «بلاي بوي» إن كان تلقى مساعدات مالية من القذافي فقال «لقد انزنقنا». أي أن الأزمة المادية جعلته يقبل المساعدة. ومنذ ذلك الوقت ووليد بك داخل في زنقة سياسية أو خارج منها. ولا حرج لا في الدخول ولا في الخروج، فهو يتكل على أسلوب شخصي كاريزماتي يمكنه من النجاة من كل الزنقات.

لكن أين وليد بك الحقيقي في كل هذه المواقف المتبدلة، مرة في دراما ومرة في مزحة ومرة في خطاب جماهيري؟ لعل أقرب وليد جنبلاط إلى وليد جنبلاط هو وليد بك الذي ألقى خطاب الامتنان للتكريم الذي أقامته له الجامعة الأميركية الاثنين 28/ 6/ 2011؛ فقد تحدث إلى الشخصيات الحاضرة، أولا، عن إخفاقاته كطالب: في اللغة العربية وفي علم النفس وفي سواهما. وعاد إلى مراحل ماضية كان الناس يعتقدون أنه يؤيد رجالها، فعبّر عن ندمه. ولم يوفر الناصرية فمرّ بصلاح نصر، وعبد الحميد السراج مدير مخابرات دولة الوحدة بين مصر وسوريا. وما التاريخ اللبناني برمته سوى «سوالف متنوعة، أمير من هنا وشيخ من هناك وبك طبعا». لكن من وسط هذه الفسيفساء «خرج من مساحة الحرية رجال مثل جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة واليوم يلتحق أمين معلوف بالخالدين».

«نزق الماضي إلى عنفوان الشباب». أما اليوم، في الستين، فيشكر الله لأنه «لم يعد هناك زعماء يفكرون عنا». وفي الماضي «تلاحم الشعب اللبناني مع الشعب الفلسطيني ومنذ ذلك الوقت التحم البلد بعضه ببعض». «والشعوب الحرة وحدها تحرر الشعوب المقموعة في فلسطين أو غيرها». ولم يحدد من يعني «بغيرها» تاركا لمخيلات السامعين أن تختار ما تشاء.

استخدم مصطلح «العقل المسجون» لكي يعلن الاعتذار من ماض لم يعد يذكره الكثيرون: «أين كنا عندما اغتيل كامل مروة، ولماذا قلنا إن الطريق إلى فلسطين يمر في جونيه» وكل تلك المواقف التي اتخذها كمال جنبلاط ثم وليد جنبلاط في «الحركة الوطنية». استغل أهمية المناسبة ونوعية الحضور لكي يغسل يديه من قضايا كثيرة، لعلها عالقة في ذاكرته أكثر مما هي في ذاكرة خصوم تلك الأيام، وحلفاء هذه الأيام، وعلامة استفهام الأيام الآتية.

الحقيقة أن وليد جنبلاط متعدد مثل كل البشر، لكن الفارق أن لا همّ عنده بإعلان ذلك. وثمة شك في أنه لا يطيق طويلا الثوب الذي يزعجه. ودائما يطل من قصر المختارة نفسه ليشدد على أفكاره الليبرالية. وبعدما هاجم قبل فترة «اليمين اللبناني الغبي» ها هو يمحو ذكريات اليسار الساذج ويريد أن يمحو «التسويات» أو الزنقات الماضية. ويريد خصوصا، بكل اختصار، للعقل العربي أن يخرج من سجنه الطويل.