العودة عن حافة الفوضى

TT

أسوأ حالة هي الفراغ لأنك لا تعود تعرف من يمكن أن يملأه. وعندما يشتد على أمة يصبح من المرجح أن تملأه الفوضى. أو مجموعة مفاجئة وغير مستحقة. ومصر في قلب الفراغ على حافة الفوضى. الأمن لم يكن في مثل هذا التردي في أي وقت. وأهل الثورة لم يقولوا بعد ما هي آفاق الثورة ولا من يمثلها ولا ما هي رموزها. والمجلس العسكري متسربل بين الخوف على البلد والخوف من التهم. والنخب المصرية تعرف من هي ضدهم لكنها لا تعرف من هي معهم. والحكومة لا تحكم بل تصرف الأعمال بالتي هي أحسن، وتسمح - مثلا - للجان الثورية بالمشاركة في مراقبة سير الامتحانات المدرسية.

مسؤولية الثورة ليس أن تراقب امتحانات، يراقبها عادة مؤهلون ومختصون ومحلفون. وإنما هي في التوافق على شكل ما، لإعادة دولة القانون، وانتشال البلد من مستنقع الفوضى والفراغ ومعالم الضعف التي تضرب صورة مصر في الداخل والخارج. لقد تحول ميدان التحرير من ساحة للحرية والتلاقي والأمل بالتغيير، إلى ساحة للتقاتل واليأس. وبعد نصف عام لا تزال مصر تتجادل حول ما إذا كانت الانتخابات أولا أم الدستور أولا.

أولا يجب إخراج البلد من فوضى التشتت والفتوات الثورية والادعاءات حول من يمثل مصر ويمثل الثورة. وعندما أجل القضاء محاكمة وزير الداخلية السابق حبيب العادلي، نزلت الناس إلى الشوارع تريد أخذ القانون بيدها. لكن مكان القانون في المحاكم لا في الشوارع. لقد سبق للقضاء المصري أن أصدر حكما شديد الفساد في قضية العبارة التي غرقت بألفي ضحية. لكن هذا لا يعني تعميم رخاوة الضمير على سائر رجال القانون.

مهما حدث من شواذات فاضحة تظل المحاكم، لا الشوارع، صاحبة القانون وفضاء العدل. وثمة خوف من أن تنزلق مصر إلى حالة تبرر فيها الشواذات الفردية الشذوذ العام. أو كمن يطرد الذبابة عن وجهه بإطلاق الرصاص عليها. أجل تقلقنا مصر، لأنه كلما حدثت رداءة مثل اضطرابات ميدان التحرير الأخيرة، قيل إنها «الفلول»، و«مافيات النظام» مبعثرة لا تطلب سوى الستر وكل طموحها ألا يشعر بوجودها أحد. وقد آن الوقت لأن نتعلم أن نحمل المسؤولية للمسؤولين في العالم العربي. ساعة نبحث عن «أميركا» وساعة عن عملاء إسرائيل، وساعة عن «فلول» النظام الذي يرقد صاحبه في المستشفى، ولا يستطيع أركانه الرقاد في سجونهم.

متى تبدأ مصر دولتها الجديدة يا ترى؟ قبل الاستفتاء أو بعد انتخابات أو بعد نهاية الفلول أو بعد انتقال الشعب من ميدان التحرير إلى مصانع حلوان ومعامل بور سعيد وميناء الإسكندرية ومزارع أسيوط وإلى كل عمل وأي عمل بعيدا عن الجدل والفراغ.