«وصاية أميركية» باسم الديمقراطية.. على غرار أوروبا الشرقية

TT

عاد التوتر والغليان إلى ميدان التحرير في مصر. وفي هذه الأثناء ألقت السلطات المصرية القبض على أميركي وبريطاني بتهمة التحريض على الشغب والمصادمات.. ومن قبل قبض على جاسوس إسرائيلي متلبس بالتحريض على الفتنة الطائفية بين المسلمين والأقباط.. وهذه ظواهر تدل على «إرادة الاختراق» للمجتمع المصري، ومحاولة تحريف التغيير الذي حدث لصالح قوى إقليمية ودولية تبتغي استثمار ما جرى لصالحها، لا لصالح مصر وشعبها.. ويظهر أن نطاق الاختراق لم يعد سريا ولا محصورا في بضعة جواسيس من هنا أو هناك. بل أصبح الاختراق «استراتيجية طويلة الأمد»، ومعلنة أيضا!! أميركا - مثلا - مصممة على هذا الاختراق لأجل تحقيق أهداف مركبة منها:

1) تسجيل مكاسب انتخابية لكل من الحزبين - الديمقراطي والجمهوري - في الانتخابات الرئاسية المقبلة. فزعماء من الحزبين يتجولون - بدأب وبمنافسة واضحة - في مصر وتونس وغيرهما من البلدان العربية التي تشهد حراكا وتغييرا. وحين يقول باراك أوباما، منذ قليل: «إن طموحات ديمقراطية تكتسح العالم العربي، وإننا سندعم هذه الطموحات والثورات مع الوفاء لمبادئنا وقوة النموذج الذي نضعه والإيمان الثابت بحق كل الناس في العيش بحرية وكرامة».. حين يقول ذلك، فإنه من السذاجة السياسية عزل كلامه هذا عن برنامجه الانتخابي بهدف الوصول إلى البيت الأبيض أو البقاء فيه لولاية ثانية، وإلا فأين كانت هذه المبادئ على مدى ستة عقود دعمت فيها الولايات المتحدة الديكتاتوريات العسكرية - وما في حكمها - دعما كان بمثابة الركيزة الاستراتيجية للسياسة الخارجية الأميركية في المنطقة.

2) الهدف الثاني المراد تحقيقه من خلال ركوب موجة الثورات أو التغييرات هو «تجميل الوجه الأميركي» أو صورة أميركا لدى الرأي العام العربي الإسلامي. فقد فشلت جميع الأصباغ والمكياجات في تحسين صورة أميركا لدى هذا الرأي العام، إذ كيف يجمّل الوجه بالقول بينما الأفعال تهيل عليه أطنانا من الطين والزفت في قضية فلسطين وغيرها؟!! ولما تبين الأميركيون فشل حملات التجميل المكياجي قدروا أن المسارعة إلى تأييد الانتفاضات الشعبية ستجمل صورتهم بطريقة أفضل.. وهذه سياسة ساذجة. أولا: لأن الشعوب أوعى من أن تخدع بهذه الأساليب البهلوانية.. ثانيا: لأن تحسين الصورة الحقيقي يكون بـ«الفعل» والسلوك، لا بمجرد اللعب على الظروف والأحوال. ويبدو أن القوم ليسوا مستعدين لمباشرة فعل كريم عادل ناجز، يجمل صورتهم، ويحسن سمعتهم.

منذ ثوان وردت عبارة: إن اختراق المجتمعات العربية المتغيرة قد أصبح استراتيجية طويلة الأمد وممنهجة ومبرمجة، فما الدليل على ذلك؟

في وزارة الخارجية الأميركية منصب (مساعدة وزيرة الخارجية لشؤون الدبلوماسية الشعبية)، تشغله الآن جوديت ماكهيل. فماذا قالت ماكهيل عن وظيفة أو مهمة وكالتها تجاه «الثورات العربية»؟ تقول: «الوضع أكثر تعقيدا الآن. يجب علينا أن ندخل في العمق. فخرائط التأثير التي نعمل عليها يجب أن تخصص لكل بلد، أو بصراحة تخصص لكل مدينة (!!!). يجب أن نستعلم عن كل مدوّن، وعن كل شخصية مؤثرة في تلك المجتمعات. وعملنا لن يتوقف هنا، إذ يجب أن ننتقل من مستوى إلى آخر، تماما كمن يقشر بصلة، فنتعرف مثلا إلى الفئة التي يؤثر عليها هذا المدوّن. وهل هؤلاء الناس هم الهدف الذي نريد أن نصل إليه.. على أنه يتوجب تكوين فريق التدخل السريع الذي سيكون صلة وصل بين السفارات والوزارة فيلغي العقبات البيروقراطية مما سيسرع العمل على الأرض ويمهد لإتمام الخطة البعيدة الأمد».

كلام أميركي رسمي واضح قاطع، واضح في التخطيط لاختراق المجتمعات العربية المتغيرة (وربما غير المتغيرة أيضا لأجل تغييرها).. وكلام قاطع بأن هذه هي مهمة السياسة الخارجية الأميركية عبر ذراعها المسمى «الدبلوماسية الشعبية».. وفي هذا السياق، أليس من الفظاظة الدبلوماسية أن يطالب مسؤول أميركي كبير بتكوين لجنة تحقيق مستقلة في الأحداث الأخيرة في ميدان التحرير بمصر!! ما لك أنت ولجنة تحقيق في بلد مستقل ذي سيادة قامت ثورته لتعزيز هذه السيادة، وتحريرها مما شوهها من قيود وتدخلات أجنبية؟!

إن على الولايات المتحدة أن تتحلى بـ«التواضع الحضاري»، ذلك أن استعلاءها الحضاري على الآخرين هو أحد أهم مكونات صورتها السيئة لدى الرأي العام العربي الإسلامي.. ثم إن هذا التواضع الحضاري تمليه عليها «ظروفها الراهنة» التي لخصها المفكر الأميركي «الديمقراطي» زبغينيو بريجنسكي، إذ قال منذ أيام: إن الولايات المتحدة الآن في حقبة «تراجع» في كل شيء تقريبا؛ في الاقتصاد، والدبلوماسية، والتحالفات الدولية، وفي مصداقيتها الأخلاقية والإنسانية.

بعيد احتلال العراق للكويت عام 1990 قال جورج شولتز وزير الخارجية الأميركي الأسبق: إن منطقة الشرق الأوسط سيضربها زلزال مثل ذلك الذي ضرب الكتلة الشرقية التي كانت دائرة في فلك الاتحاد السوفياتي.. هذه الكتلة الشرقية شهدت - بعد سقوط السوفيات - تغييرات جذرية وواسعة، وهي تغييرات انغمست فيها أميركا أيما انغماس، وكانت النتيجة أنه تحت شعار التغيير الديمقراطي حولت أميركا أوروبا الشرقية إلى «لوبي أميركي» في المزاج والقرار داخل القارة الأوروبية التي همت بالتمرد على أميركا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وزوال الخوف الأوروبي منه.

فهل تريد أميركا تكرار التجربة في الوطن العربي، بمعنى أن تجعله - باسم الديمقراطية - تابعا لها في كل شيء: في المزاج والقرار، والقيم، والحياة الاجتماعية، ومفهوم الدين والحياة الخ؟