ضياع الثورة بلا استراتيجية تعليم

TT

رسائل القراء في الصحافة (وهي في بلدان الديمقراطية صناعة بالتعريف الاقتصادي حيث حرية السوق شرط لحرية الصحافة)، بارومتر للتعرف على رد فعل العقلية الجماعية للأمة للأحداث الجارية. لقارئ الصحيفة (بعكس مشاهد التلفزيون الآني) فرصة استيعاب تفاصيل أخبار أحداث وقعت قبل 10 - 36 ساعة ويبعث بتعليق هضمه للخبر.

بدأت متابعة صحف اللغة العربية على الإنترنت، منذ 2000 (عندما ابتكرت وأعددت برنامج «بعد الطبع» لتلفزيون أبو ظبي قبل وأده عندما كان عمره عامين)، وركزت على تعليقات القراء. اكتشفت جريمة تاريخية ارتكبتها أنظمة «تربية وتعليم» موضة 23 يوليو، بنسفها الأسس المعرفية لتدريب الجيل الناشئ على البحث التحليلي عن المعلومة من نقطة محايدة، والتشكيك في صحة الظاهرة كجزء من تدريب عقل التلميذ للبحث عن أدلة لا يمكن، بلا ثبوتها، تقبل صحة الظاهرة.

التكامل المعرفي من خلال البحث كان هدفا استراتيجيا في تدريب معلمي وزارة المعارف منذ عهد مبارك باشا في القرن الـ19 حتى أجهز عليها الضباط الأحرار عام 1958.

كان هدف المعلم تدريب عقل الطفل في مرحلة التكوين المعرفي (5 - 10 سنوات) على البرمجة الذاتية في البحث research process عند مواجهة «الجديد» اللامذكور في نصوص المنهج بغية فتح الأفق وإطلاق إبداع الخيال لا تقييده.

عندما أدليت البارومتر لقياس الحالة الذهنية في وسط تعليقات قراء المواقع العربية، لاحظت مأساة جيل مواليد ما بعد 1951، حيث برامج تشغيل العقول ترفض البرمجة الذاتية بتقييدها بمناهج تحفيظ النص المكتوب لا تشغيل برنامج الاكتشاف الذهني.

أي ظاهرة جديدة تضع الجيل - بمناهج لم تعلمه السباحة - أمام نهر عميق سريع التيار. ويبدأ البحث عن القارب، كوسيلة العبور الوحيدة التي ذكرتها مناهج التربية والتعليم. وفي نصوص الوزارة يجد مبرر العجز عن العبور في عدو (كالصهيونية أو الغرب الصليبي) سرق القارب؛ أو في نص آخر، تلاوة الابتهالات لمعجزة سماوية للعبور (كخزعبلات المشعوذين في قنوات دينية تلهي عن مواجهة الواقع عمليا).

ثورة الياسمين، ثم ثورة اللوتس في ميدان التحرير، دفعتني لقياس ردود فعل القراء العرب: مدى استفادتهم من؛ وتفهمهم لـ؛ وانخراطهم في؛ أو ابتعادهم عن، حالة استيقاظ الوعي الجماهيري الجديد في جمهوريات الانقلابات العسكرية.

الاستثناء الشباب (وأغلبه غربي المرجعية الذهنية) مفجر الوعي الجديد بوسائل غربية 100% من إنترنت إلى مظاهرات سلمية (ولاحظوا كثافة اللافتات والشعارات باللغة الإنجليزية - لغة الإنترنت - من ميدان التحرير إلى دمشق وصنعاء وبنغازي). أما القاعدة، فجيل 1951 لا يزال - ذهنيا - في واد يفصله عن وادي جماهير الوعي الجديد مسافة نصف قرن من وحل مناهج «التربية والتعليم». جيل لم يتعلم سباحة وزارة المعارف فيبحث عن قارب عبور أي حدث في مناهج جعلت من خرافات الشعارات الأيديولوجية ثوابت. هدف مناهج تربية وتعليم 23 يوليو كان إحكام حزام العفة الفكري حول عقول الأجيال الناشئة حتى لا تبرمج تفكيرها استقلاليا خارج الإطار الأيديولوجي (تلاميذ ألمانيا في عصر هتلر أبلغوا الغستابو عن معلمين طلبوا منهم النظر في عدسة الميكروسكوب مثبتين تطابق عينات دم سلالتهم الآرية مع غيرهم خلافا لخرافة النازية).

أنظمة الانقلابات العسكرية الشمولية (بقاياها الوطني المصري والبعثي السوري، والجماهيراوي الليبي والصالحاوي اليمني) ربطت مناهج اللغة العربية - الوسط التفكيري التواصلي - بالدين، ومناهجه بدورها سلفية، تحرم الاجتهاد لأنه يفتح باب استقلالية التفكير. مناهج الدين / اللغة العربية أبيض وأسود لا وسطية فيها (قارن غياب ابتكار الصحافيين العرب لكلمات جديدة مركبة - وإذا غامر أحدهم قتل المصححون ابتكاره كخطأ لغوي - بفيضان التعبيرات اللغوية المبتكرة يوميا في الصحافة الأنجلوساكسونية). منهج تربية وتعليم اللغة العربية / الدين زرع ذهنية تحريم التفكير خارج نص المنهج في العقول الغضة في مرحلة التكوين. ولا شعوريا يرى جيل مواليد ما بعد 1951 أن ما يخرج عن نص المنهج العربي «الحلال» هو كفر ينتهي بالروح إلى جهنم وبئس المصير.

ورغم نسف زلزال ميدان التحرير لخرافة ما يسمى بالخصوصية الثقافية الاجتماعية التي تحرم الديمقراطية على الأجناس الناطقة بالعربية، لا يزال الاجتهاد العقلي الفردي «حراما» في العقل الباطن للجيل المسكين.

ثورة اللوتس في يناير 2001، كثورة 1919، لم يشعلها الجياع من أجل الخبز؛ كالفرنسية في القرن الـ18، بل صنعتها طبقات متوسطة متعلمة.

ثوار 1919 - وبينهم آلاف المهاجرين الأوروبيين مسيحيين ويهودا - ارتفع مستوى تعليمهم التراكمي من بعثات محمد علي وإبراهيم باشا، والخديوي إسماعيل (ومناهج التعليم المصري كانت فرنسية أو إنجليزية).

إرهاصات ما قبل ثورة اللوتس كحركة كفاية؛ والدينامو المحرك فيها المناضل العجوز جورج إسحاق من جيل وزارة معارف طه حسين؛ وشباب 6 أبريل و«فيس بوك» والإنترنت كلهم تقريبا غربيو التعليم، ومحللو علوم سياسية واقتصاد وعاملون في شركات الغرب وخريجو جامعاته (والأطباء والطبيبات العائدون من أوروبا بأدواتهم وأدويتهم ليعالجوا الثوار) ومدارس خاصة أوروبية المناهج المبنية على نظرية المعرفة التي تطورت في عصر التنوير الأوروبي.

ثورة الياسمين التونسية فجرها خريجو تعليم حديث أرادوا نصيبهم في كعكة رفض النظام مشاركة الخبازين فيها.

ذهنية ثوار اللوتس تطورت خارج قيود مناهج تربية وتعليم 23 يوليو وأشباهها.

تعليقات جيل ما بعد 1951 - حتى المقيمون منهم في الغرب - أظهرت عجز إشعاع يقظة الثورتين عن اختراق الحزام المجمد لمرونة ذهنية تتعامل ببديهية أن ما يحدث في أي وقت أو مكان هو محصلة تلاقي عناصر متعددة قابلة للتغيير بعشرات الاحتمالات. بل يبحث الجيل عن قارب عبور ما صدق أنه ثوابت زرعتها مناهج تربية الانقلابات العسكرية في الأدمغة. فمثلا تعليقات عشرات العرب (مقيمون في الغرب) تؤكد أن القرار 1973 (الذي قدمته المجموعة العربية لمجلس الأمن في مارس) لحماية المدنيين، مؤامرة صهيونية لتقسيم ليبيا، وليس استجابة لقسم الكولونيل القذافي وولده على الهواء بذبح البنغازيين «من بيت إلى بيت وزنقة إلى زنقة».

ولذا، فرغم التفاؤل المبدئي بإشراقة المطالب الديمقراطية بين جماهير المنطقة، فلا أعتقد أن تأتي دورة العجلة الحالية بثمار ما رواه دم شهداء ثورات 2011، بل ستتطور الحرية المدنية في دورات أخرى يستحيل أن تثمر إلا بالقضاء على جهل مناهج وزارات التربية والتعليم ماركة 23 يوليو وبرسم استراتيجية معارف تحرير العقل مبتدئة بأصول الفلسفة اليونانية. فلنتذكر أن البذور التي كلف محمد علي رفاعة الطهطاوي بزرعها لم تنضج ثمارها بـ«نهضة مصر» إلا بعد ثلاثة أجيال. ولذا أتت أول دورة لعجلة ثورة 1919 بدستور 1923 ونظام برلماني تعددي وأجيال الإبداع.