ومن الفن ما.. كفر!

TT

عندما قام المخرج الفذ الراحل مصطفى العقاد بإنتاج عمله السينمائي العبقري فيلم «الرسالة» هاج عليه الكثيرون وعارضوه وكفروه وأهانوه وزندقوه وفسقوه، ولا يزال هذا العمل يبهر من يشاهده من المسلمين وغير المسلمين وساهم في إسلام أكثر من سبعين شخصا من الكوادر الفنية التي عملت معه خلال إنتاج الفيلم ناهيك عن العشرات الآخرين غير المعروف عددهم ممن شاهدوه بعد ذلك وتأثروا به، ومبيعاته على الإنترنت لا تزال متواصلة رغم مرور أكثر من ثلاثين عاما على إنتاجه، وكانت تهمته الكبرى أنه قام بتجسيد الصحابة في الفيلم، صحابة مثل عم الرسول صلى الله عليه وسلم حمزة وخالد بن الوليد وعمار بن ياسر وسعد بن أبي وقاص وبلال وغيرهم.

والفيلم كان قيمة فنية وتاريخية رائعة وفيه إتقان للعمل والتفاصيل بشكل فذ ومبهر يليق بالأعمال الكبرى، وهو بالمناسبة لم يكن العمل الأول الذي يتطرق للتاريخ الإسلامي في مرحلته الأولى. فلقد تناولت السينما العربية أعمالا مهمة ولافتة مثل «الشيماء أخت الرسول» و«وا إسلاماه» و«بلال مؤذن الرسول» ولكن «الرسالة» يظل بلا جدال العمل الأهم والأكثر إتقانا وتأثيرا ونجاحا. وعلى الشاشة الصغيرة تلفزيونيا كانت هناك محاولات كثيرة جدا لتقديم أعمال مميزة تحاكي الفترات الأولى واللاحقة في التاريخ الإسلامي ومسلسلات عن شخصيات تاريخية بعينها فكان لـ«صلاح الدين الأيوبي» و«ملوك الطوائف» و«عمر بن عبد العزيز» وغيرها النجاح اللافت ولكن كان لمسلسل «أبو القعقاع التميمي» الذي عرض على الشاشات منذ أكثر من سنتين نصيب غير بسيط من الجدل واللغط وذلك لوجود سقطات وهفوات حادة في أمانة العرض التاريخي لأحداث المسلسل وأخطاء لا تغتفر أثرت على جدارة ومصداقية قبول المسلسل كمادة موضوعية تعرض التاريخ للمشاهد المتلقي.

واليوم يستعد التلفزيون العربي والمشاهد العربي معه لاستقبال شهر رمضان الذي أصبح منصة تقليدية لعرض أهم الأعمال الدرامية التلفزيونية وأكثرها تميزا وأغزرها إنتاجا، وفيه سيعرض عملان دراميان يحاطان بالسرية الكبيرة في تفاصيلهما ولكنهما حتما سيجدان النقد والقبول والاعتراض وذلك «لوعورة» المنطقة التي سيخوضان فيها وخطورتها غير المسبوقة. والعملان المعنيان هما مسلسل «الفاروق» وهو الذي تنتجه محطة «إم بي سي» وتعرضه على شاشتها وهو بحسب الاسم يحكي عن حياة الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد جال الفريق المنتج لهذا العمل على بعض المشايخ والعلماء بمن فيهم شيخ الأزهر لعرض المادة الفنية والتاريخية والحصول على الدعم والمساندة والموافقة خصوصا فيما يتعلق بتجسيد شخصية عمر بن الخطاب وكبار الصحابة حيث لا يزال هناك جدل عظيم حول السماح بتجسيدهم أو لا. فهناك اتفاق على عدم جواز تشخيص الأنبياء والرسل ولكن مع الصحابة يبقى المجال محل جدال وتبيان في الفتوى، فمنهم من أجازه بالمطلق ومنهم من سمح به واستثنى العشرة المبشرين بالجنة ومنهم من لم يجز تجسيد كافة الصحابة وطبعا هناك الفريق المتشدد والمتنطع المتطرف الذي يحرم الصورة بكافة أشكالها! والعمل الثاني الذي تعتزم محطة «روتانا خليجية» إنتاجه وإطلاقه في رمضان المقبل أيضا بعنوان «الحسن والحسين ومعاوية» وطبعا هو يحاكي فترة «ملغمة» من التاريخ الإسلامي باتت تعرف بفترة الفتنة الكبرى التي لا يزال العالم الإسلامي يعاني منها لليوم. والفريق المنتج لهذا العمل قام هو الآخر بالاستعانة بآراء ومشورة كبار رجال الدين من العالم الإسلامي للموافقة والمباركة على العمل الفني على الرغم من المحاذير المحيطة به وحساسية الموضوع الذي انقسم عليه العديد من العلماء والمؤرخين في تفاصيل أحداثه.

يحسب للمنتجين الذين أقدموا على هذه الخطوات الجريئة تقديم التاريخ الإسلامي بصورة عصرية تعتمد على وسائل التقنية الحديثة التي يستخدمها العالم وإخراجها من دفات الكتب الصفراء، لأن الفيلم اليوم أصبح بمثابة كتاب تاريخ ووثيقة مهمة لتسجيل حقبة مؤثرة من الزمان الفائت تماما مثلما فعل فيلم «الوصايا العشر» للدين اليهودي وفيلم «غاندي» للهنود وغيرهما من الأعمال الكبرى ولكن يبقى التحدي الأكبر في أن يكون ما يقدم كمادة تاريخية متوازنا ودقيقا وموضوعيا غير مؤدلج ولا موجه ولا مسيس ولا مبالغ فيه بحيث لا يتأثر بالأحداث الحاصلة اليوم في أي مكان ويقدم مادة أمينة وصادقة تصلح لليوم وللغد وما بعد ذلك.

الإقدام على إنتاج وتقديم هذه النوعية من الأعمال الفنية هو انعكاس مباشر للوعي الذي تطور في عقول بعض العلماء من رجال الدين وإدراكهم أنهم بحاجة ماسة لأدوات جديدة للدعوة ومخاطبة عقول الناس باحترامها لا بازدرائها بلغة وأساليب خشبية لا تقبل ولا تنفع ولا تفيد بل إنها تنفر وتكون سببا مباشرا في بعد الناس وبالتالي تؤدي إلى نتائج عكسية.

بعض الناس من الآن سلت سكاكينها استعدادا لاستقبال العملين الكبيرين في رمضان وانهالت التعليقات بالاستحسان والاستهجان والمديح والشتائم عليهما قبل أن يروهما، ولكن يبقى الحكم النهائي على العمل نفسه ومدى قبوله جماهيريا. وكل الأمل أن لا يقدم أحد على منعهما أو منع أحدهما لأن زمن المنع قد ولى ورحل والساحة الحرة ومساحات الرأي تتسع.. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.

[email protected]