الحق والباطل في الاستفتاءات كما تراهما الحكاية الشعبية

TT

مع أن كلمة الباطل هي المصطلح المعتمد فلسفيا، إلا أن الوعي الشعبي في اللغة العامية يستخدم كلمة «الزور» بديلا عنها، بينما يبقي على كلمة «الحق» كما هي. والحكاية التالية سبق لي أن نشرتها في كتابي «أيام الضحك والنكد» الذي صدر منذ ربع قرن تقريبا، غير أنني طوال هذه الأعوام كثيرا ما اكتشفت فيها جديدا لم أتنبه له من قبل، وهذه هي ميزة الحكاية الشعبية، أنها أكثر ثراء في المعاني مما تتخيل، لذلك هي قادرة دائما - بينما أنت تراقب الأحداث من حولك - على أن تضع أمام عينيك ما سبق لها أن أخفته عنك.. إلى الحكاية..

كان الحق والزور يمشيان معا، سارا معا عبر مراحل التاريخ، قطعا الصحاري والفيافي والقفار، عبرا الوديان والأنهار، إلى أن شعرا بالإجهاد الشديد، فجلس الزور على الأرض وجلس الحق بجواره، قال الزور: أنا متعب جدا.. ولكي نواصل طريقنا معا أنا أرى أن تحملني على كتفيك.

فانتفض الحق وقال: نعم؟ أحملك؟ تقصد أن تركبني؟ لماذا لا أركبك أنا؟ لا تنسَ أنني أنا الحق.

فرد الزور: ولا تنسَ أنت أنني أنا الزور.. لست أقل منك في شيء.. ولست أفضل مني في شيء.. وما يعطيك الحق في أن تركبني هو ذاته ما يعطيني الحق في أن أركبك.. ألم تسمع عن الديمقراطية يا صديقي؟

فقال الحق: سمعت عنها بالطبع.. غير أنني على يقين من أنها لا تعني أن تركبني حضرتك.

فرد الباطل: ماذا تعني إذن في تصورك؟ أن تركبني أنت وأن أمشي أنا؟

فقال الحق: أعتقد أن ذلك أقرب للعقل والمنطق.. من الطبيعي أن الحق هو الذي يركب الزور.. هذا هو في تصوري ما تحتمه الديمقراطية.

فقال الزور: لقد اختلفنا.. لا بد أن نعترف بذلك.. ولا بد من حكم بيننا.. لا بد من مرجعية نرجع إليها.. لا بد أن نعود إلى الشعب.. لأنه مصدر السلطات.. لا بد أن نسأل الناس.. هل لديك اعتراض؟ إذا لم توافقني فمعنى ذلك أنك غير ديمقراطي.. وهذا أمر يشعرني بالحزن لأنني ضيعت عمري في مصاحبة شخص مشكوك في ديمقراطيته.

فقال الحق: والله يا أخي أنا منطقي مع نفسي تماما.. وحتى بعد أن نسأل الناس في استفتاء عام، أؤكد لك أنهم سيقولون بحسم: «الحق هو اللي يركب».

فقال الزور بحماس: عندها سأرحب بأن تركبني أنت وتدلدل رجليك، أنا ملتزم بما يقرره الناس.. اتفقنا.

جمعا الناس في ساحة كبيرة وقالا لهم: يا ناس.. نحن الحق والزور.. مشينا لآلاف السنين معا.. ونحن الآن نشعر بالإجهاد.. لا بد أن يركب أحدنا الآخر.. قل رأيك.. نعم للحق.. أو نعم للزور.. من سيركب من؟ هل الحق يركب الزور.. أم أن الزور هو الذي يركب الحق؟ سنوزع عليكم الآن أوراق الاستفتاء.. الدائرة الخضراء هي الحق، والدائرة السوداء هي الزور.

وجاءت نتيجة الاستفتاء تماما كما توقع الحق: الحق هو اللي يركب.

وهنا يعلق الحكاء الشعبي على حكايته قائلا: ومن يومها.. الحق راكب، بس الزور هو اللي ماشي.

«الزور هو اللي ماشي» بمعنى أن الباطل هو السائد على الرغم من علو الحق، هي أكثر الكلمات تشاؤما في التاريخ، غير أن الحكاء الشعبي لم يجد صيغة أخرى لحكايته ينبه بها جمهوره إلى أن الاعتراض أو الموافقة يجب ألا يكونا على الكلمات بل على الأفعال. من المستحيل أن يكون الوعي الشخصي الفردي هو الذي ألف هذه الحكاية، بالتأكيد هي من إنتاج اللاوعي الجمعي للشعب المصري، تم فيها استخدام كل آليات اللاوعي التي تنتج الأحلام والكوابيس، وهي أيضا شكوى وعرض حال يرسلهما الشعب لحكامه ونخبته ويسلي بهما جمهوره في الماضي والحاضر والمستقبل.. وكل مشهد فيها يصلح اختبارا لطلبة علم النفس السياسي، لقد استخدم كلمة «ماشي» استخداما عبقريا، وهو «يسود» وبذل مجهودا إبداعيا كبيرا في شرح فكرته بعد تحويل المعاني في حكايته إلى بشر من دم ولحم في فعل درامي واضح لتوصيل فكرته، وهي أن الحق والباطل ليسا منفصلين تمام الانفصال، بل هما يسيران معا وجنبا إلى جنب في كثير من الأحوال، وربما في الأحوال كلها، وبذلك تكون وظيفة العقل الناقد هي التعرف على ملامح كل منهما بوضوح من أجل عدم الانخداع بالمنطق الصوري للكلمات، الحكاية تنبه إلى أن منطقية أي قضية لا تعني بالضرورة صحتها.

هناك في عقول البشر مقولة قديمة هي أن «الحق يعلو ولا يُعلى عليه» هذا ما جعل نتيجة الاستفتاء مؤكدة ويمكن التنبؤ بها، غير أن الخدعة هنا كانت في فهم معنى «العلو» الذي لا يعني الركوب بالضرورة، الأمر هنا أشبه برفع شعار ديني أو سياسي نبيل عاليا، بينما سلوك البشر في الشارع يسوده الوضاعة وانعدام التحضر، إنها قضية الانفصال بين الأفكار المطروحة والأفعال الناتجة عنها على الأرض. ما وصلني أيضا من الحكاية هو أنه ليس من حق الحق أن يريح نفسه أو قدميه؛ لأنه هو العدل، هو القانون، والعدل لا يحصل على فترات راحة أو إجازات مرضية، وعندما يفكر في ركوب الزور فهذا معناه أنه كان يفكر في حل لمشكلته هو وليس مشاكل الناس، لقد فرح عندما أدلى الناس بأصواتهم في صفه، غير أنه لم يتنبه إلى النتيجة العملية، وهي أن الزور هو الذي سيمشي، أي سيسود، الناس أيضا كانوا ضحية للخدعة، لقد تصوروا أن ركوب الحق يعني سيادته على الباطل، بينما هو من الناحية الواقعية الفعلية ليس أكثر من شعار مرفوع عاليا، أو لافتة رفعت على دكان يبيع سلعة واحدة هي الزور. الباطل هنا استطاع بعبقريته أن يخدع الحق وأن يجره إلى أرض ليست أرضه، وهي العودة إلى أصوات الناس كمرجعية فكرية، الواقع أن الحقيقة فردية بطبيعتها، أي ناتجة عن عقل المفكر الفرد، هو لم يتنبه أصلا لخطأ القضية، فليس من حقه أن يركب أحدا أو يركبه أحد لأنه هو الحق. العدل والحق والقانون مخلوقات حية، ليس من حقها أصلا أن تمشي مع الباطل ولو حتى لمشوار قصير. ليس من حق الحق أن يهادن الباطل ولو لثوانٍ معدودة، فوظيفته الوحيدة ومبرر وجوده هما محاربة الباطل بلا كلل أو ملل أو حسابات يتصور أنها صائبة. لو أتيحت لي فرصة الإجابة عن هذا السؤال: الحق يركب أم الزور هو اللي يركب؟

لقلت للحق بغلظة: إيه اللي مشاك يا راجل انت مع الزور؟ انت اتجننت؟