الثورة وما بعد الثورة

TT

كما للملابس والأحذية موضة، للأفكار والفلسفات أيضا موضتها. كانت الثورة موضة الخمسينات والستينات. تمدح زميلك بأنه ثوري وتدعم حكومتك لأنها ثورية. وتتكلم، كما كان يفعل صدام حسين، عن أعين الثورة وأيادي الثورة وما تريده الثورة، كما لو كانت الثورة حيوانا حيا.

ولكن بعد الفشل والشقاء الذي سببته الأنظمة الثورية في مصر والعراق والجزائر وما سواها، أخذنا ننظر شذرا للفكرة. واكتمل سقوطها بسقوط النظام السوفياتي وفشل الأنظمة الشيوعية في كل مكان. حتى الصين وفيتنام أخذت تتخلى عن شيوعيتها وتقتبس اقتصاد السوق والرأسمالية. «تيتي تيتي مثل ما رحتي جيتي». حتى كاسترو اعترف أخيرا بأن نظامه الاشتراكي قد فشل.

ولكننا معتادون التمسك بكل ما فات أوانه ونعيش بعد التاريخ. انتبهت لذلك بعد سماعي لبعض برامج إحدى القنوات الفضائية. الظاهر أن القوم ما زالوا يعيشون موضة الخمسينات. يا جماعة، فاتت هذه الموضة وبطلت! نحن الآن نعيش في مرحلة أخرى من مسيرة البشرية، عهد ما بعد الثورة، Post – revolutionism، ولكن من يسمع؟! راحوا يؤيدون أي «ثورة» في أي مكان من دون التدقيق في خلفياتها ورجالاتها وأجندتها واحتمالاتها ووسائلها.

موضة الموسم الآن هي الديمقراطية، بما تتضمنه من الروح الليبرالية والمرحلية والمجتمع المدني. سلاحها ليس السيف والبندقية، وإنما «الجهاد المدني»، أي اللاعنف. هكذا نجحت المعارضة في تونس ومصر. اكتشفوا أن اللجوء للعنف والتخريب والاعتداء على الممتلكات يعطي السلطة الحق في استعمال السلاح ضدهم وزجهم في السجون وتعذيبهم وتصفية قادتهم. إننا نعيش الآن في مرحلة تاريخية جديدة تقوم على فكرة حقوق الإنسان، الموضة الجديدة. لم يعد الرأي العام العالمي ولا الدول الكبرى تسمح بالاعتداء السافر على حقوق الإنسان، ومن ذلك فتح النار على أناس عزل لا يحملون السلاح. الحكومات مثل البشر. لها حق الدفاع عن نفسها. ولكن حق الدفاع عن النفس لا يسمح لك باستعمال سلاح أمضى من سلاح من يهددك أو يعتدي عليك. لا يجوز لك أن تستعمل مسدسك ضد نشال يضع يده في جيبك أو يلطمك على وجهك.

كانت الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تغض النظر عما يفعله حلفاؤهم من انتهاكات تتماشى مع مصالحهم. كان هذا في العصر الثوري. ولكن أوباما قلب الآية في عهد ما بعد الثورة. فحذر حلفاءهم من استعمال العنف ضد من لا يستعمل العنف. وكانت نقلة مهمة في السياسة الأميركية فتحت فصل الأوبامية. وكان زين العابدين وحسني مبارك أول ضحاياها. وسيتبعهم آخرون ممن ما زالوا يعيشون في الماضي ولم يستوعبوا بعدُ هذه النقلة وبقوا يعولون على إطلاق النار في قمع المعارضة والاستمرار في الحكم بنفس الأساليب البوليسية والعسكرية التي أوصلتهم للحكم. مثلما أصبحت الجماهير تعول على أساليب اللاعنف في مقارعة السلطة بالتظاهر والاحتجاجات واللاتعاون والعصيان المدني. على أصحاب السلطة أن يردوا على المعارضة بالطرق اللاعنفية: بالحوار والتفاوض والإصلاح ورفع المظالم وتطوير الشورى والديمقراطية والمجتمع المدني.