المحكمة

TT

رفعت قوى «8 آذار» في لبنان، منذ إعلان المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، شعارا يقول: «نحن مع المحكمة شرط عدم تسييسها»، أي أنها ضد المحكمة تماما؛ لأنها لا تنظر في اغتيال عدد من الفنانين والمطربين، بل في سلسلة اغتيالات بدأت برئيس للوزراء ومرت بعدد من النواب والوزراء، ثم بنائب وصاحب أعرق جريدة في لبنان. لذلك كان الكلام عن «عدم تسييس» المحكمة مثل القول: لا بأس بالحرب ولكن دون عسكريين.

تأخر القرار الدولي الاتهامي، ثم تمادى في التأخير، إلى أن أصدر مع صدور البيان الوزاري للحكومة الجديدة. ولا صدف في السياسة، كما كان يقول أبو عمار. وكان يمكن أن يصدر قبل أو بعد، لكن الغرب يريد أن يبلغ الحكم الجديد في لبنان أن الحل الدبلوماسي حول صياغة البيان ليس مقبولا. وقد تأخر تشكيل الحكومة خمسة أشهر، على أمل الوصول إلى حل يرضي «8 آذار» ولا يغضب الدوليين، غير أن النتيجة كانت معروفة سلفا: هناك جريمة تبحث عن فاعلها.

لم تنفع الاغتيالات التي أعقبت مقتل الرئيس رفيق الحريري، وشملت سياسيين وصحافيين مسيحيين في رفع الطابع المذهبي عن السلسلة. وكان هذا أصعب وأعقد ما في الأمر. وكانت «8 آذار» تخشى من أن مجرد توجيه التهمة إلى عناصر من حزب الله سوف يترك تداعيات خطيرة في هذا المناخ الإقليمي شديد التأزم. وعندما أشارت التقارير الاتهامية الأولى إلى ضلوع سوري في اغتيال الحريري، لم يكن هذا النوع من التخوف واردا. لكن منذ أن أشارت مجلة «دير شبيغل» الألمانية إلى احتمال البراءة السورية وضلوع أفراد من حزب الله انقلب الوضع السياسي في لبنان.

سعت قوى «8 آذار» إلى إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري، لكونها ملتزمة بالاتفاق مع المحكمة الدولية. وبعد تغير لون الأكثرية النيابية، بخروج وليد جنبلاط من «14 آذار»، كلف الرئيس نجيب ميقاتي بالعثور على صيغة وسطية، باعتباره ماهرا في ذلك، لكن هذه المرة كانت هناك استحالة، فقد تكدست خلال الأعوام الماضية خلافات ونزاعات وجروح، زادت مع الوقت عمق الفرقة بدلا من فتح باب النسيان. وتحول الخلاف إلى مواجهة مسلحة ودامية في 7 مايو (أيار) 2008، شملت الأحياء ذات الأغلبية السنية في بيروت، وامتدت إلى المناطق الدرزية في الجبل. كما حوصرت السراي الحكومية وأغلق وسط بيروت في اعتصام دام عامين.

لم تؤد زيارات سعد الحريري إلى دمشق وإعلانه ألا علاقة لسوريا باغتيال والده إلى أي انفراج، بل أسقطت حكومته وهو في مكتب باراك أوباما. وبعد استقالته ذهب إلى باريس التي أبلغته أن حياته مهددة بخطر جدي في بيروت. ولم تولد حكومة ميقاتي بعد هذا في دق المزاهر، بل بينما كانت غارقة في البحث عن مفردات سحرية أرسل إليها القرار الاتهامي محملا بأسماء لا تبقي للوسطية دورا.