العلم طويل.. والعمر قصير!

TT

أخطر حدث في حياتي قارئا وحريصا على أن تكون لي مكتبة: ظهور كتب الجيب الصغيرة جدا، وكان يسكن إلى جواري بائع لهذه الكتب.. واشتريت مائة كتاب منها.. أي كل الذي كان يعرضه للبيع على عربة يد.. فكانت أول نواة لمكتبتي التي تضم اليوم أكثر من سبعين ألف كتاب.. ولا أزال أحتفظ ببعض هذه الكتب.. حتى لا أنسى فرحتى بهذا الحدث الذي كان نقطة تحول في حياتي الأدبية.

وارتبطت نهائيا بالكتب.. أقرأها، وأشتريها، وأحرص عليها وأرتبها وأفهرسها.. أما الآن فلكثرة الكتب وتنوعها وتعدد لغاتها (سبع لغات) لم أعد قادرا على الترتيب والتبويب.. إنني أعرفها من النظر إلى لون أغلفتها..

ومن أعز ما أملك في مكتبتي وثيقة كتبها أمين مكتبة المنصورة يشهد لي فيها بأنني عندما كنت تلميذا قرأت كل ما في المكتبة من كتب وقصص.. ويدعو الله أن يبارك لي وأن ينفع بي بلدي وأهلي.. ولم يكن من أجل هذه الوثيقة قرأت واستمتعت، وإنما من أجل المتعة التي هي أعظم وأرقى وأنبل وأبقى المشاعر العقلية.

والمثل اللاتيني القديم يقول: العلم طويل والعمر قصير!

تماما كالطعام والماء والهواء.. مهما أخذت فالباقي كثير جدا..

ورفاعة الطهطاوي المثقف الأول في العصر الحديث عندما كدس الكتب أمامه في باريس وجد أن الذي يجب أن يقرأه في حجم الهرم الأكبر.. وحيره ذلك.. ولكن عليه أن يختار ويريح نفسه.. يقول في ذلك شعرا بسيطا:

ما حوى العلم جميعا أحد

ولو مارسه ألف سنة

إنما العلم عميق بحره

فخذوا من كل شيء أحسنه!

ولكن أهم ما صنعته القراءة: أنني اعتدت عليها.. أنني لا أستطيع أن أعيش بغيرها.. والله خلق الإنسان قارئا متحدثا مفكرا.. وأول كلمة في القرآن الكريم: اقرأ.. وأول عبارة في التوراة: في البدء كانت الكلمة.. والكلمة هي العقل والحكمة التي هي من عند الله.

وأهم ما يجب أن نغرسه في الطفل والشاب: أن يتعود القراءة.. أن يدمن القراءة.. ومن تجربتي أرى أن نترك الطفل والشاب يقرآن أي شيء.. لأن أهم ما في القراءة المتعة.. اللذة.. التسلية.. الاستغراق الذي ينسيك كل ما حولك وما في داخلك.. والاستغراق وحده هو الذي يغسلك ويعصرك وينشرك ويريحك بعد ذلك!