المحكمة الدولية الخاصة بلبنان.. جبل جليد على نار حامية

TT

«هناك محكمة أرفع من كل المحاكم العدلية هي محكمة الضمير»

(المهاتما غاندي)

لدى مراجعة شريط الأحداث في لبنان بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري ورفاقه، وانسحاب القوات السورية من لبنان، وتوالي الاغتيالات السياسية، وقرار الحكومة اللبنانية الشرعية إحالة جريمة اغتيال الحريري والاغتيالات التي تلتها إلى العدالة في وجه معارضة صريحة - تتولد عند المراقب قناعات معينة. ومع هذه القناعات لا يعود القرار الاتهامي الذي أعلن مضمونه خلال الأسبوع الماضي حدثا مزلزلا، على الأقل، على الصعيد الإعلامي، ذلك أن الشائعات والتسريبات، التي كان لكثيرين مصلحة فيها، ولا سيما الجهات المشتبه في ضلوعها بالجرائم، وأيضا ردود فعل بعض الأطراف اللبنانية والإقليمية - أخمدت جذوة الإثارة في الموضوع.

بل إن الأخطر من ذلك هو أن المواقف السياسية الصادرة عن جهات معينة تعطي كل من يهمه الأمر انطباعا بأنها اختارت أن تورط نفسها بنفسها.. على طريقة «كاد المريب يقول خذوني». فهذه الجهات تجاوزت القول إلى الفعل في «الحرب» التي خاضتها ضد الحكومة التي طلبت المحكمة الدولية ووقفت معها سياسيا، وأيضا ضد المحكمة نفسها على الرغم من علمها – أي هذه الجهات – أن القرار الصادر بهذا الشأن عن مجلس الأمن الدولي قرار ملزم التنفيذ.

وما حصل أنه إزاء هذا «الأمر السياسي الواقع» - الذي هو إنشاء المحكمة - كان لا بد لهذه الجهات التي تذرعت طويلا بأن «المحكمة مسيسة» من إلغاء كل «الظروف الموضوعية» داخل لبنان لتعطيل مفاعيل إنشائها ومن ثم عملها على الأرض. بكلام آخر، كان لا بد لها من وضع اللبنانيين، في ظل احتلال فعلي، أمام مفاضلة مستحيلة بين العدالة والأمن. ولهذا السبب، ربط عدد من المحللين والساسة، كل التطورات السياسية التي حدثت في لبنان بعد 14 فبراير (شباط) 2005، بـ«تجاوز» اغتيال الحريري ورفاقه وحلفائه الذين استهدفوا بسلاح الاغتيال. والمقصود هنا بكلمة «تجاوز» تجاوز المشروع لا الأشخاص، على الرغم من الاحترام الكامل لهم ولذكراهم.

القضية، بكل بساطة وكل خطورة، كانت ولا تزال، معركة بين «مشاريع» سياسية يمكن اختصارها - تصرفا - بمشروعين اثنين، هما:

الأول: قيام دولة حقيقية في لبنان، بغض النظر عن الهوية العقائدية لأحزاب الأغلبية فيها، وطول مدة هذه الأغلبية أو قصرها.

والثاني: دولة «عقائدية» فوق القوانين والدساتير الموضوعة، وفوق مفاهيم السيادة والمواطنة والتعددية ودولة المؤسسات.

أحزاب التكتلين السياسيين الواسعين «14 آذار» و«8 آذار»، اللذين خاضا الصراع السياسي وغير السياسي في لبنان منذ 2005، لم تتفق في أي لحظة على «ثقافة سياسية» جامعة تحت خيمة كل من التكتلين، بل اندرج كل منها في تكتله لغايات تكتيكية، طبعا.. باستثناء حزب واحد.

هذا الحزب كان منذ البداية يعرف دوره، وما هو مطلوب منه، وما هو مؤهل ومعد له. ولذا، كان هو المبادر إلى التحرك شعبيا وتنظيميا يوم 8 مارس (آذار) 2005.. قبل أن ينظم خصومه أنفسهم، وقبل أن تتاح لهم المعطيات الكافية للشك فيه. والدليل على ذلك أن كل الشعارات التي أطلقها الشارع الذي انتفض بعد اغتيال الحريري ورفاقه وجهت، يومذاك، أصابع الاتهام إلى أركان ما كان يسميه «الدولة الأمنية».. وعلى رموزها الجنرالات الأربعة.

ثم إن رفض فكرة المحكمة الدولية جاء قبل أي شبهة بـ«تسييسها». كانت فكرة القضاء الدولي مرفوضة من أساسها، «مسيسا» كان أم لا. ولذا، اتخذ قرار سحب الوزراء الشيعة من الحكومة، ولاحقا احتلال وسط بيروت، والتهديد علانية باقتحام مقر رئاسة الحكومة.

ومع تبدل المحققين والوجوه في جهاز المحكمة، غدت التسريبات مادة مطلوبة لنسف صدقية المسار القضائي برمته، وهذا ما يفسره واقع أن في طليعة وسائل الإعلام المتحمسة لنشر التسريبات.. هي تلك المشككة في المحكمة والرافضة قيامها أصلا.

اليوم، اللبنانيون إزاء حكومة تتخيل بعض القوى المشاركة فيها أنها تستطيع لعب دور «نظام امتصاص الصدمات»، وقد حاولت ذلك في المساومات والمناورات لـ«ضبط» كلمات بيان وزاري قد يعني أي شيء لأي كان.

وإزاء قرار اتهامي يحمل أسماء أشخاص محددين كلهم، أو جلهم، ينتمون إلى حزب سبق له أن أعلن أنه لن يسلم أحدا من أعضائه إلى تحقيق مسيس ذي نيات وأهداف معادية.

وإزاء حالة احتلال مفهومة ما عادت بحاجة إلى براهين وتعابير مهذبة أو مموهة.

وإزاء وضع إقليمي محتقن، وقد يقول قائل إنه يخفي من الحسابات والمقايضات المحتملة ما هو أكبر بكثير من لبنان، وساسة لبنان وسكانه.

القرار الاتهامي الذي أعلن في الأسبوع الفائت - كما نسمع - لا يمكن أن يكون خاتمة المطاف، بل هو قمة جبل جليد. وذلك لأن جريمة، بل جرائم عديدة، بحجم ما ارتكب في لبنان خلال السنوات الخمس الأخيرة لا يعقل أن يكون مجرد «توارد خواطر» بين أربعة أو خمسة أشخاص. ولا بد أن ثمة دوافع أكبر وأرقى وراء ما غدا واضحا أنه تبديل جوهري في التركيبة السياسية - والسكانية - للبلد.

وبما أن الحرارة محليا وإقليميا مرتفعة هذه الأيام، فإنها على الأرجح ستمس هذا الجبل وتهدد بطوفان.