القضاء بالإشاعة

TT

كان يقال: إذا أردت أن تقتله لا تطلق عليه رصاصة، أطلق عليه إشاعة. أفرج القضاء الأميركي عن رئيس البنك الدولي السابق بعدما اتهمته عاملة في فندق بمحاولة الاعتداء عليها. اعتقل وأوقف ووضع قيد الإقامة الجبرية وفرضت عليه كفالة 6 ملايين دولار وتناولته صحف وتلفزيونات العالم، وخسر مستقبله السياسي كمرشح للرئاسة في فرنسا، وبعد كل ذلك قيل له: عفوا، كنا على خطأ، لأن المرأة التي اتهمتك شريكة في عصابة مخدرات وتبييض أموال ولها سوابق في الكذب أمام المحاكم.

من سيقتنع كلّيا ببراءة الرجل؟ لا أحد. لقد زرعت المحاكم الأميركية والإعلام الدولي الشكوك حوله، ونبشت تفاصيل حياته وعلاقاته النسائية. وتركت الناس تقتنع بأنه من الممكن جدا أن يحاول الاعتداء على عاملة من غينيا. بدت المسألة يومها صعبة التصديق. لماذا يحاول ثري نافذ «الاعتداء» بدل أن يقدم لها عرضا؟ لكن الناس بطبيعتها أرادت أن تصدق العاملة. فالأغنياء يعتبرونه خصما لهم والفقراء يعتبرونه عدوّا، والجميع يسرّهم التشفي بالمشهورين، بالإضافة إلى ما في ذلك من سلوى وطق أحناك.

في «الثورة الثقافية» كانت الإشاعة تسبق أي عملية تطهير. يكفي القول إن الرجل «بورجوازي» حتى ينتهي أمره. كان أول الضحايا الرئيس الصيني نفسه، ليو تشاو تشي. ثم رفيق ماو الآخر دنغ كسياو بنغ، الذي خرج من السجن فيما بعد ليمحو مرحلة ماو برمتها. وفي لبنان تم تدمير أكبر بنوكه، «إنترا»، بإطلاق إشاعة تقول إنه يفتقر إلى السيولة. وبعد نصف قرن لا يزال البنك يسيل ذهبا رغم كل ما سُرق منه وما نُهب وما بيع.

كثيرون انتحروا بسبب إشاعة أطلقت عليهم. وكثيرون اعتزلوا الحياة العامة. وكثيرون تلقوا اعتذارات من الكاذبين ولكن بعدما كانت حياتهم قد دمرت ولحقت بسمعتهم الإساءة والشكوك. وكان الأديب خليل تقي الدين سفيرا في موسكو عندما وضع رواية قصيرة بعنوان «تمارا» من أجمل أعماله. ولم يعجب أهل اليسار نقل صورة لا تقدس البلاشفة فاتهموا الرجل بالعمالة للـ«سي آي إيه»، وكانت تلك يومها أسهل التهم وأعمّها. كما كانت تقال خصوصا عمن ينتقدون أميركا بحجة أنهم يفعلون ذلك «للتمويه»، وبناء على اتفاق سرّي مع البيت الأبيض. وقبل وفاته نشر الرجل الجليل بيانا محزنا يقسم فيه أنه لم يكن في حياته عميلا لأحد.

كيف تحارب الإشاعة والافتراء والكذب؟ تدق بيوت الناس وتقول لهم إن ما يسمعونه جناية مجانية، أو كيدية؟ إذا كنت مؤمنا تترك ذلك لإيمانك. قال لي صديق إن أعمق حزن عرفه في حياته يوم توفي أحد الوشاة بمرض في حنجرته. فلم يترك كذبة، صغيرة أو كبيرة، إلا وساقها عليه. وقال: «أكثر ما أحزنني أنه مات تحت ثقل مجانياته. فقد حرم في سنواته الأخيرة القدرة على الافتراء المجاني، خطيا وشفهيا».

لي صديق آخر يتبع عادة لا يغيرها: «اللهم إذا كانت الوشاية صحيحة فأنزل بي أقسى عقابك، وإذا كانت كاذبة فأنزل به عدلك».