«العرابي» يصحح مسار «العربي»!

TT

ما أبعد المسافة بين أول تصريح صدر عن الدكتور نبيل العربي، الأمين العام للجامعة العربية، عندما كان قد تولي أمر وزارة الخارجية المصرية، قبل مائة يوم من الآن، وبين أول تصريح صدر عن السفير محمد العرابي، حين تولى أمر الوزارة نفسها، خلفا للعربي، بعد انتخابه أمينا عاما للجامعة.

ما أبعد المسافة، رغم أن الرجلين في الحالتين، كانا يشغلان موقعا واحدا، وكانا يعبّران، بالتالي، عن سياسة خارجية لدولة واحدة أيضا بالطبع، وليس لدولتين!

ففي اليوم الأول للعربي في الوزارة، أطلق تصريحا قالت عنه صحيفة «الأخبار» القاهرية في حينه، إنه يمثل «ثورة» في سياسة مصر الخارجية، وكان في مجمله يقول إن إيران ليست عدوا لمصر، وإنها دولة صديقة لنا، وإن القاهرة في طريقها لإعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة معها، وإنها.. وإنها.. إلى آخر ما قيل يومها، وكان في نظر كثيرين ممنْ تابعوه، وتابعوا صداه، يمثل قفزا فوق حقائق ثابتة في علاقة مصر بدول الخليج كلها، ويمثل أيضا نوعا من الهرولة - إذا جاز التعبير - من جانبنا في القاهرة باتجاه طهران، وهي هرولة لم تكن جائزة، ولا لائقة، لا لشيء، إلا لأن الهرولة مع افتراض وجودها، كان يجب أن تأتي من جانبهم هم، في إيران، وليس من جانبنا نحن، لأنهم هم أيضا، الذين كانوا قد بادروا بقطع العلاقات، مع قيام ثورة الخميني، عام 1979، وبعد أن عقدت مصر معاهدة السلام مع إسرائيل، في العام نفسه.

لقد كنت في الكويت، في نهاية أبريل (نيسان) الماضي، وكان رئيس الوزراء المصري، الدكتور عصام شرف، في جولة عربية تشمل السعودية والكويت، وقطر، وما أذكره الآن، مما تابعته عندما كنت هناك، وكان ذلك قبل مجيء «شرف» بساعات، أن أصداء تصريحات الوزير العربي، في الكويت، وفي صحفها، لم تكن تدعو إلى التفاؤل، فيما يتعلق بعلاقات المستقبل، بين مصر، من ناحية، ودول الخليج من ناحية ثانية!

طبعا.. أستدرك هنا لأقول، إن من حق مصر أن تحدد، بحرية كاملة، طبيعة علاقتها الخارجية، بأي دولة في العالم، سواء كانت هذه الدولة هي إيران، أو غير إيران.. من حقها أن تحدد شكل، وطبيعة، واتجاه، علاقتها بالدول كلها، دون أن تخضع في ذلك لوصاية من أحد.. ولكن.. على الجانب الآخر، هناك مصالح قائمة، ودائمة، بيننا وبين دول الخليج، وهذه المصالح لا بد أن تكون في الحسبان، عند الكلام عن أي خطوة جديدة، مع إيران.. فإذا كانت العلاقة بين الأخيرة، وبين بعض دول الخليج، وبشكل خاص الكويت والبحرين، متوترة، وملتهبة، كان ذلك أدعى لأن نراعي فروق التوقيت، فيما كان الدكتور نبيل العربي قد أعلن عنه، وصرح به، وجاء في صورة مانشيتات عريضة في صحف الدولة المصرية، بما أوحى يومها، بأن هذا الاتجاه الجديد، من جانب وزير الخارجية الجديد، بعد ثورة 25 يناير، إنما هو محل ترحيب، وتشجيع، ومباركة، من الحكومة كلها، وبما أوحى أيضا، بأن هذا الخط الجديد، والمفاجئ، في سياسة مصر الخارجية، قد جرى اعتماده، وإقراره، من أجل العمل به، وتطبيقه، بعد الثورة!

لست، الآن، في حاجة إلى الإشارة إلى أن الدكتور نبيل العربي نفسه قد عاد عن تصريحاته الأولى، فيما بعد، وأنه قد خطا عدة خطوات إلى الوراء، بعد أن بدا أن عواصم الخليج قلقة للغاية، من كلامه، ولست في حاجة أيضا، إلى الإشارة إلى أن الدكتور شرف عندما زار الدول الثلاث، كان في كل عاصمة منها يؤكد أن أمن الخليج بالنسبة لنا نحن في مصر، خط أحمر، وأنه ليس محل مساومة ولا نقاش، وأنه ليس فقط خطا أحمر، وإنما هو جدار أحمر بكامله!

اليوم.. غادر العربي الخارجية المصرية، إلى الجامعة العربية، وجاء في مكانه السفير محمد العرابي، وكان أول تصريح له بعد أداء اليمين الدستورية أمام المشير طنطاوي، أنه قال إن أمن الخليج ليس مجالا للمساومة.

قرأت تفاصيل الخبر، فلم أجد فيه معلومات كافية، عن طبيعة المساومة، التي يقصدها الوزير الجديد، ولا عن أطرافها، كما أنه لم يوضح لنا، اسم الدولة، أو الدول، التي لن تقبل مصر أن تدخل معها في مساومة حول علاقتها بدول الخليج!

لم أجد شيئا من هذا، في تصريحه الأول، ولكني وجدت أنه جاء على عكس ما كان قد صدر عن الوزير العربي، قبلها بمائة يوم، على طول الخط، وكأن الوزير العرابي، قد جاء ليصحح مسار العربي، منذ اليوم الأول!

وربما يكون الشيء الذي يضايق في الموضوع، أن الدكتور شرف من المفترض أن يكون اليوم، في زيارة للإمارات، وبعدها سوف يتوجه إلى البحرين.. وما يضايقني هنا، أنني لم أكن أتمنى أن تأتي تصريحات الوزير العرابي، قبل أيام من زيارة رئيس الوزراء للدولتين، لأنه من الوارد أن يكون على جدول أعمال الزيارة، منح مصر قرضا أو أكثر، لمواجهة العجز القائم في ميزانية العام المالي الجديد، وبالتالي فإن هذا حين يحدث، سوف يجري فهمه على أن تصحيح مسار العربي، قد جاء من أجل القرض إياه، أو القروض إياها، وليس من أجل إقرار مبادئ علاقات تاريخية راسخة بين مصر ودول الخليج.

العلاقات بين الدول، خصوصا إذا كانت بين دولتين في حجم مصر وإيران، إقليميا، لا تؤخذ بهذه السرعة، ولا بهذه الخفة التي بدت في يوم كلام «العربي» عنها، ثم تراجعه التدريجي عن الكلام الأول، يوما بعد يوم.

وإذا كانت الإمارات - مثلا - سوف تقدم مساعدة اقتصادية لمصر، فالمفروض أنها تفعل ذلك، لأن مصر هي الدولة العربية الأم، ولأنها تواجه أزمة عابرة في ميزانيتها لظروف طارئة، ولأن هناك رابطة أشمل تجمعهما، هي الجامعة العربية، التي تجمع معهما عشرين دولة عربية أخرى.

وإذا كانت القاهرة تقول، على لسان وزير خارجيتها الجديد، إن أمن دول الخليج لا يقبل المساومة، فالمفروض أنها تقول ذلك، لأن هذا من ثوابت سياستها الخارجية، التي لا تتزعزع، ولا تقوله بينما عيناها على قرض من هنا، أو مساعدة من هناك.

إيران عندما تتطلع نحو دول الخليج، تفعل ذلك، وهي تستهدف عروبتها، في المقام الأول، قبل أن تستهدف شيئا آخر، ولا تريد حكومة الثورة الإيرانية أن تستوعب أن علاقات طبيعية يمكن أن تقوم بينها، وبين دول الخليج، على أساس من حسن الجوار، والندية، والتعاون، وليس على أساس الهيمنة والاستهداف، والرغبة في بسط النفوذ بأي وسيلة.

ولأن إيران لا تريد أن تستوعب أن دول الخليج الست، دول عربية، وسوف تظل كذلك، فإن القاهرة عليها وهي تتحرك هناك، أن تؤكد لها هذه الحقيقة، في كل وقت.. وربما يكون تصحيح المسار الذي قام به العرابي، هو الخطوة الأولى، في هذا الطريق، بشرط أن تكتمل الخطوات فيه، وتتكامل، لا أن تنتكس عند أول منعطف!