يحاربون الإعلام والدعم الإنساني والدبلوماسية

TT

ينشغل العالم العربي بالتطورات التي تجري في أكثر من بلد. ينشغل بأحداث ليبيا، وبأحداث سوريا، وبمظاهرات اليمن الفريدة من نوعها، والعاجزة - على الرغم من ذلك - عن الوصول إلى أهدافها. ينشغل أيضا بما يمكن أن نسميه «المظاهر» المضادة التي تبرز داخل الحراك التونسي، أو داخل الحراك المصري، حيث يتجدد في مصر مثلا الصدام بين المتظاهرين وبين أمن وزارة الداخلية، وحيث يتجدد في تونس مثلا إبداء الاستعداد لمواصلة التطبيع مع إسرائيل.

تغيب في ظل هذا الانشغال العربي الواسع، متابعة السياسات الأميركية - الأوروبية الدؤوبة، في كل ما يتعلق بإسرائيل وبالقضية الفلسطينية، حيث يبرز موقف، أو مواقف، أميركية - أوروبية شديدة التماهي مع إسرائيل، وشديدة العداء للعرب، ومن دون أي اهتمام بالمصلحة العربية، أو تقدير حساسية ردود الفعل العربية إزاء تلك السياسات. وسنحاول أن نستعرض المظاهر الأساسية لهذه السياسات المعادية، التي تحتاج إلى عناية عربية رسمية وشعبية، كما تحتاج إلى تحرك عربي يشعر معه الغربيون والأميركيون بمدى الانزعاج العربي من مواصلة سياسة إرضاء إسرائيل، هذا الانزعاج الذي قد يتحول إلى سياسات عربية معادية.

نبدأ أولا بقضية الشيخ رائد صلاح في لندن، وهي قضية قد تبدو صغيرة وفردية. الشيخ رائد صلاح رجل عمل سياسي سلمي، لا يمكن اتهامه بـ«الإرهاب»، ولا يمكن اتهامه بدعم أي عمل مسلح، رجل كلمة وفكر، حتى إنه يرفض الدخول في معمعة السياسة اليومية داخل الكيان الصهيوني. يحصر اهتمامه في حقوق شعب فلسطين التي دمرها الاحتلال، ويحصر اهتمامه في موضوع القدس. وهو صاحب شعار «القدس في خطر»، ويجمع حول هذا الشعار كل عام، الشباب والكشافة، ويحدثهم عن القدس وعما تعنيه القدس لكل عربي ولكل مسلم ولكل مسيحي، حتى من دون أن يهاجم إسرائيل أحيانا. ولكن هذا النشاط بين الناس، وهذا النشاط المتركز حول القدس، يزعج إسرائيل أكثر مما يزعجها «العمل الإرهابي»، فتبادر إلى اعتقال الشيخ رائد صلاح مرة ومرات، تحاكمه وتحكم عليه بالسجن أشهرا وأشهرا، تحاول ردع مسيرته، ولكن الرجل لا يرتدع. وهو أصبح مع الزمن زعيما مرموقا بين الفلسطينيين، داخل فلسطين وخارجها. وها هو يمد نشاطه إلى بريطانيا، عبر زيارة طبيعية ونظامية وقانونية وشرعية، ولكنه ما يلبث أن يعتقل، ويسجن، ويتهم بمعاداة السامية، لأن إسرائيل تقول إن من يهاجمها يهاجم اليهود ويكون «لا ساميا»، ولأن الأمن البريطاني يقبل هذا المنطق ويعمل حسبه، ويبادر إلى منع رجل فلسطيني سلاحه الكلمة، ومنطقه الدفاع عن حق شعبه، وبواسطة قرار دولة أوروبية، تتماهى سياستها مع ما تريده إسرائيل.

ومن قضية الشيخ رائد صلاح، ننتقل إلى قضية أسطول الحرية، وهو أيضا ظاهرة سلمية. سفن وأشخاص يحملون مواد غذائية وطبية، وهدفهم الوصول إلى غزة، وفك الحصار عن شعب غزة، وهو حصار إسرائيلي - أميركي - أوروبي استمر حتى الآن لسنوات. ولكن إسرائيل لا تريد هذا العمل الإنساني، وتعتبره دعما للإرهاب، وتعتبره محاولة لإزعاج إسرائيل فقط، كما يقول وزير خارجيتها ليبرمان. وانسجاما مع موقف إسرائيل هذا، تتقدم أميركا، وتتبرع بالإعلان عن معارضتها لفكرة الأسطول، ولفكرة فك الحصار عن غزة. وتتقدم الدول الأوروبية (ألمانيا، وفرنسا، وسواهما) فتعلن كل دولة لمواطنيها أنها لا ترغب بأن تراهم يساهمون في هذا النشاط الإنساني.. وإلا. أما اليونان التي اختيرت نقطة تجمع وانطلاق، فتعترف علنا أنها تخطط لوضع العراقيل الفنية أمام انطلاق السفن، ويصل الأمر إلى حد الإيعاز للمهندسين بتخريب الآلات، ويصل الأمر إلى حد إرسال الغواصين لتخريب زعنفات المحركات. وتبدو الدول الأوروبية كأنها تعمل كرجال أمن في خدمة سياسة إسرائيلية، دون أن تكترث أي دولة لرد الفعل العربي على مواقفها هذه.

ثم ننتقل إلى السياسة البحتة، إلى سياسة الرئيس محمود عباس، حليف أميركا والغرب، واللجنة الرباعية الدولية الراعية لمفاوضات التسوية، وإلى قراره بالتوجه إلى الأمم المتحدة لعرض قضية الدولة الفلسطينية عليها. عمل سياسي، دبلوماسي، علني، في أروقة الأمم المتحدة، ومع ذلك فإنه يلقى اعتراضا ومقاومة يمكن أن نصفها بأنها شرسة، تأتي من جانب أميركا ومن جانب الدول الغربية، إرضاء لإسرائيل. أميركا تقول إنها ستمارس الفيتو إذا عرض الأمر في مجلس الأمن. وتقول إنها لن تدفع التمويل السنوي للأمم المتحدة إذا بادرت الدول إلى تأييد المطلب الفلسطيني، هذا عدا عن التهديدات التي تمارس خفية ضد هذه الدولة أو تلك، لإقناعها، أو لإجبارها، على أن تصوت ضد المطلب الفلسطيني. وأخيرا يعلن مجلس الشيوخ أنه سيوقف المساعدات الأميركية للسلطة الفلسطينية إذا واصلت العمل باتجاه الأمم المتحدة.

وهنا تدخل اللجنة الدولية الرباعية على الخط (روسيا وأميركا وأوروبا والأمم المتحدة)، فتعلن غضبها على هذا العمل العلني السياسي والدبلوماسي، بعد أن كانت تركز غضبها قبل سنوات على العمل الفدائي الفلسطيني المسلح، وتطالب الفلسطينيين باللجوء إلى العمل الدبلوماسي والسياسي. وتعمل اللجنة الرباعية بخطة أخبث، تقول إنها ستبحث في مبادرة سياسية دولية للعودة إلى التفاوض الفلسطيني - الإسرائيلي، لا لشيء إلا لإقناع الفلسطينيين بنسيان الأمم المتحدة ومناقشاتها وقراراتها، وتعلن أيضا أنها ستجتمع في واشنطن (يوم 11/7/2011) لتبحث خطة عملها هذه، وقبل أربعة أيام من الموعد الرسمي لتقديم الطلب الفلسطيني.

أما حين تدخل إسرائيل على الخط، فتحاول من جهتها أن تخيف دول العالم الأخرى من مغبة الحراك الفلسطيني ونتائجه، فتقول إن التحرك الفلسطيني سيكون سابقة تنسج على غرارها جهات أخرى، وهي هنا تخاطب تركيا وتقول لها إن الأكراد عندها قد يحاولون تقليد الفلسطينيين فيطالبون باعتراف الأمم المتحدة بدولة كردية. وتخاطب الصين وتقول لها إن أهل التيبت قد يفعلون الشيء نفسه أيضا. وتخاطب حتى إيران وتقول لها إن عرب الأهواز (عربستان) قد يتحركون ويطالبون بالشيء نفسه، ولذلك فهي تحذر هذه الدول من دعم الموقف الفلسطيني، والعمل ضد مصالحها الخاصة.

والنتيجة التي تتبلور على ضوء هذا كله، أن أميركا والغرب، يعملون ضد المصلحة الفلسطينية، وضد المصلحة العربية، مهما كان المطلب الفلسطيني أو العربي. إذا كان العمل إعلاميا يتم اعتقال الشيخ رائد صلاح. وإذا كان إنسانيا يتم السعي لعرقلة مسعى تحريك أسطول الحرية. وإذا كان العمل دبلوماسيا تتحرك الدول العظمى لتعطل معنى وجود الأمم المتحدة، ومعنى اللجوء إليها للاحتماء بها.

هل يمكن أن تتواصل هذه الصورة ويبقى كل شيء على حاله في السنوات المقبلة، أو حتى في الأشهر المقبلة؟

هل يمكن أن يتواصل هذا التناغم الغربي مع إسرائيل ويستمر الموقف العربي على حاله؟

وهل يمكن أن تتواصل هذه الدبلوماسية الأميركية - الغربية في التعامل مع قضايا المنطقة، من دون ردات فعل غاضبة وعنيفة؟

بعض الأسئلة تحمل في داخلها احتمالات أجوبة خطرة. والأسئلة كلام، ولكن الأجوبة الخطرة تتجاوز الكلام.. أو هكذا تعلمنا السياسة.