أمة المنفى!

TT

ما إن هدمت بنغازي قبو المخابرات حتى بدأ مئات الليبيين في العودة من منافيهم. الألوف ما زالوا ينتظرون. والعائدون لم يذهبوا إلى الفنادق والبيوت. تركوا أشغالهم في بوسطن ونيوجيرسي وجاءوا يقاتلون الجلاوزة الذين تسببوا في نفيهم. وبعضهم قضى. ليس في بنغازي بل في الزنتان، إلى جانب مصراتة.

لا أعرف كم هو عدد العرب الذين ينتظرون العودة إلى ديارهم. لكنني أعرف أن بعض العرب وصل بهم الأمر إلى أن رأوا الأمل في «الناتو» والأميركيين. ونعرف أن الليبيين الذين ذاقوا مرارة أردأ استعمار غربي، هللوا لمشهد الطائرات الإيطالية تقصف السيوف التي على رقابهم، و«المرشات» التي ترميهم كجراثيم.

الكثيرون ينتظرون. لكن الأمر الأكثر ألما أن بعض الأخلاف أسوأ من بعض الأسلاف. والمأساة أن ملايين (نعم) العراقيين ما زالوا يفضلون المنافي حيث هم، على العودة إلى كنف نظام لم يفتح الباب العام أمام الجميع، وما زال ينكل بالخصوم، ويتميز عن النظام السابق بالغرق في الفساد. رفع الفلسطينيون منذ اللحظة الأولى شعار «عائدون». وكلهم أمل بالعودة ذات يوم. ولا أعرف كم من المنفيين العرب يأمل بالعودة. ولا إلى ماذا ومن يعود. للعربي وطنان: الغربة والحرقة. وانظر إليهم في غربتهم، يملأون الدنيا صراخا وعتابا ومطالبة بالحقوق. وانظر إليهم في بلدانهم حيث حقوقهم وأرضهم. وانظر إليهم يبنون بلدان الآخرين ويصغون إلى أغاني أحمد عدوية بأعلى صوت ممكن على أرصفة نيويورك. وينقلون أبناءهم إلى مدارس مجانية وأهلهم إلى مستشفيات مجانية وكل عطلة هي يوم شم النسيم في الحدائق.

اصغ إليهم كيف يصرخون في الخارج مطالبين بتطبيق القانون. كيف يحرقون السيارات والمباني في فرنسا لأن الدولة قصرت في العثور لهم على عمل. ولا يوضعون في السجون ولا في المقابر ولا يكرمون باعتبارهم شهداء. اخترع أبو عمار هذه الصيغة الطريفة ومضى: كل من قتل بنيران صديقة هو شهيد. لم تكن جثته ترسل إلى زوجته وأولاده، خالية، بل مكتوبا عليها بخط جميل: إفادة بأن الراحل العزيز رقي إلى درجة شهيد، بعد قتله خطأ على الحاجز. يكرم برتبة الشهادة مع أنه هو المذنب، أولا وأخيرا. لا سمع تحذيرات أهل الحاجز ولا رآهم. ضعف في النظر. ضعف في البصر. يرتاح الضمير العربي إلى هذا النوع من التكريم لقتلاه. البعض يحضر الجنازات ويتقبل التعازي مع أهل الفقيد ويحبس دمعة حارة. وملايين العرب على أبواب أوطانهم تلف منافيهم أسباب شتى: الفقر أو القهر أو سهولة وغزارة الاستشهاد. عاد أبو عمار ورفاقه إلى فلسطين ولم يعد سياسي عربي إلى بلاده بعد. وعادت الديمقراطية إلى العراق بأقلية الأصوات لا بأكثريتها. وما زال ملايين العراقيين ينتظرون. أو بالأحرى لا ينتظرون.