يا ما أحلى النسيان!

TT

مصيبة النسيان أنه يمحو من ذاكرتك ما تريد، ويبقي ما لا تريد. فكم أتمنى، لو استطعت، محو كل ما عرفته وصدقته من خزعبلات ثقافتنا، وتحملناه من سفاهات بعض زعمائنا وحماقات أمتنا. ولكن هيهات. كل ذلك يطرق ذاكرتي ساعة بعد ساعة ويطوف حتى في أحلامي. ولكنني أنسى، بدلا من ذلك، الأمور التي تهمني وأحتاج إليها. أين وضعت مفاتيح البيت؟ وكم بقي من حسابي في البنك؟ وأين ذهبت أم الولد؟ وهلم جرا.

النسيان على درجات. هناك النسيان المطبق المعروف طبيا بالأمنيسيا، وينتج اعتياديا من حادثة أو مرض، ويمحو كل ما في ذاكرتك، بحيث لا تعرف حتى من أنت. وهناك نسيان الخرف المعروف طبيا بألزهايمر، وهي علة تستولي عليك تدريجيا تنتهي بحيث تعجز حتى عن معرفة أهلك، أو كيف تتناول طعامك. وهناك نسيان الشيخوخة، وهو مصير كل إنسان يتقدم به العمر، فينسى واجباته ومواعيده مثلا. يمكنني أن أسمي النوعين الأولين بالنسيان التراجيدي، والنسيان الثالث بالنسيان الكوميدي.

هناك ثروة عظيمة من النكات والتقليعات التي ترتبط بالنسيان الكوميدي. كذلك الرجل المسن الذي طلب من زوجته أن تأتيه بشيء من الآيس كريم. «حبيبتي اكتبيها أخاف تنسين». لا ما أنسى. كيف أنسى؟ وعاد الزوج ليضيف إلى طلبه: «واريد تحطين عليها شوية مربة. اكتبيها اخاف تنسين المربة». لا ما أنساها. كيف أنساها؟ «وحبيبتي رشي عليها شوية فستق. اكتبيها أحسن تنسيها». لا ما أنساها. كيف أنساها؟ آيس كريم ومربة وفستق.

وذهبت الزوجة العجوز للمطبخ واختفت لعدة دقائق قبل أن تعود وبيدها صحن عليه بيضتان مقليتان. قدمته لزوجها. «ووين الخبز؟ يعني ما عندك عقل؟ كيف واحد ياكل بيض من دون خبز؟».

صفحة من صفحات النسيان الكوميدي. وهو نوع شائع جدا. تذكروا ما وعد به نوري المالكي عن مكافحة الفساد وقمع الطائفية. نسي كل ذلك الآن فخصص 136 مليار دينار للأوقاف «الشيعية». صورة أخرى من النسيان. وهو ما وقع به أيضا أسقف كنيسة إكستر. دعوه لإلقاء محاضرة في جامعة برستل. فركب القطار متوجها لتلك المدينة. صعد مفتش البطاقات يدقق في بطاقات المسافرين. عبثا راح الأسقف يفتش عن بطاقته. فتش كل جيوبه ثم ركع على الأرض يفتش بين المقاعد وأحذية المسافرين حتى تعطف المفتش: «لا تزعج نفسك سماحة الأسقف. كلنا نعرف من أنت. ولا نتخيلك تركب القطار من دون بطاقة. انس البطاقة وعد لمكانك». «كلا. لا بد أن أعثر عليها يا سيدي. ضروري أعرف وين أنا رايح!».

كل عظماء المفكرين مثل أسقف أكستر ورئيس الحكومة العراقية مبتلون بالنسيان. وهو ما وقع به أيضا البروفسور فاينر. انتقل لمسكن جديد وكتب عنوانه لئلا ينسى. سأله تلميذ عن مسألة فأخرج الورقة وشرح الحل على ظهرها وأعطاها له. فلم يعرف أين يذهب. عاد لبيته القديم وسأل شابا: أتعرف يا فتى أين أسكن؟ «نعم، بابا. تعال معي. بعثتني أمي إلى هنا وقالت أبوك سينسى أننا انتقلنا».