لماذا لم تقل «الآن» في سوريا؟

TT

أصبح من الواضح تماما أن الموقف الدولي والإقليمي تجاه الأزمة السورية، موقف مراوغ، وربما هو محرج ومأخوذ بتصميم الشعب السوري على الانتفاض والثورة، هناك فرق يراه الأعشى بين الموقف الدولي والعربي تجاه ما جرى في ليبيا ومحاربة سلطة القذافي، وما يجري الآن في سوريا، من كلام هين لين: و«لعل» بشار يصلح، و«ربما» النظام يفلح، و«ريثما» الشعب ينصح، «حيثما» الكفة ترجح.. ربما وريثما وحيثما.. هذه خلاصة الموقف الخارجي تجاه مطالب الثائرين في جل المدن والأرياف والسواحل السورية.

أميركا تهلل لحوار فندق سميراميس داخل دمشق، وروسيا تقرع المعارضة التي لم تمد يد الترحيب لحوار النظام معها في دمشق، بينما دبابات النظام تدك إدلب ومعرة النعمان، وشبيحته يفعلون الأفاعيل في حمص وحماه وحلب. النظام يحاور في دمشق بلسانه، ويحاور في بقية المدن بسنانه!

السوريون الثائرون يقرعون العرب الصامتين، ويتحدثون بمرارة عن التخاذل العربي من قبل الجامعة العربية التي قال أمينها العام المساعد، أحمد بن حلي، مؤخرا إننا لا نقدر على اتخاذ موقف مساند لثورة الشعب السوري على غرار موقفنا تجاه ثورة الشعب الليبي لأن الدول العربية، رسميا، تمتنع من ذلك.

إذن لا غبش ولا ضباب، الرؤية واضحة، صمود السوريين المذهل هو الذي، ربما، يجبر المجتمع الدولي ممثلا بمجلس الأمن ودوله القوية، والدول العربية ودول الإقليم الكبرى بالذات تركيا، على تغيير المواقف، وكذلك سلوك النظام السوري المراهن حتى آخر الخط على استخدام القوة والترويع وإراقة الدماء الغزيرة متكئين على موقف دولي مرتبك وغير حاسم تجاه مستقبل النظام السوري.

لم نجد لغة «الآن يعني الآن» التي استخدمها أوباما وفريقه في الإدارة الأميركية تجاه حسني مبارك في مصر، ولا لغة ساركوزي الحربية تجاه القذافي، بل ولا حتى اللغة الخشنة المستخدمة تجاه الرئيس اليمني علي عبد الله صالح والتي تطالبه بالرحيل الفوري.

لماذا هذا الاختلاف في الموقف من الأزمة السورية؟!

هناك عدة تفسيرات لهذا التخاذل والخوف.

هناك من يقول إن العرب غير مستعدين لتكرير الفوضى العراقية بعد سقوط نظام صدام حسين، وإن لديهم الاستعداد للتعايش مع نظام كنظام بشار الأسد في سوريا على أن يروا سوريا تقع في مستنقع الفوضى والفشل التام، مثل الجار العراقي، خصوصا أن النظام حتى لو بقي بعد هذه الثورة، فسيكون نظاما مدجنا وغير قوي، وهذا ربما يكون أفضل من البقاء مع حالة اللانظام، وهنا نكون ضربنا عصفورين بحجر واحد، النجاة من الفوضى التامة في سوريا، وإضعاف قدرات نظام الأسد على المشاغبة والسياسات الإقليمية الموالية لإيران.

وهناك من يقول بل الخوف هو من تسليم البلد بعد رحيل نظام الأسد، كما يجري الترتيب له الآن في مصر، إلى جماعة الإخوان المسلمين، باعتبار «الإخوان» هم الطرف الأقوى في المعارضة السورية، وهناك نكون أمام حالة تسابق أصولي سياسي خطير في المنطقة، بما ينعكس على الدواخل العربية التي ما زالت مستقرة في الخليج وغيرها.

وهناك من يرى أن سبب الحذر الدولي الحقيقي من اتخاذ موقف حازم تجاه النظام السوري، رغم خطابه الثوري ضد إسرائيل واحتضانه لحماس وحزب الله، وتحالفه مع إيران، هو إسرائيل نفسها!

نعم، فهي ورغم انزعاجها من النظام الأسدي وسياساته، فإنه يمكنها التعايش معه، عوض القفز في المجهول، وفتح جبهة الجولان مع دمشق، خصوصا أن سقوط نظام حسني مبارك المفاجئ لم يكن سارا لها، بل وكان له وقع الصاعقة، بعد أن انفتح المستقبل المصري في السياسة الخارجية على المجهول.

نعم، صدرت عدة تصريحات متناقضة في إسرائيل حول الأحداث السورية، منها الذي يقول إنه يوجد بديل لنظام الأسد، ولا داعي لخوف إسرائيل من الحراك الشعبي السوري المطالب بالديمقراطية، وإن ذلك في العمق هو من صالح إسرائيل، كما هو رأي إيهود باراك، وهناك أيضا داخل إسرائيل وخارجها من حلفاء الدولة العبرية من حذر من البديل الغامض.

في إسرائيل، التي هي قوة كبرى مؤثرة على صناعة القرار الأميركي الخارجي، هناك اعتباران أساسيان في صناعة السياسة الخاصة بها في الإقليم، هناك الاعتبار الأيديولوجي القائم، في العمق على الأساطير التوراتية التاريخية، لحدود أرض الميعاد، وهناك الاعتبار العملي البحت القائم على التخطيط الامبريالي لضمان التفوق الإسرائيلي في المنطقة، دون نظر للمحدد الأيديولوجي، وهما اعتباران متجاوران ولديهما القدرة على التعايش مع بعضهما بشكل مذهل كما يشرح المؤرخ والباحث الإسرائيلي الشهير إسرائيل شاحاك.

وكما يفصل شاحاك، فقد اعتمدت استراتيجية إسرائيلية كبرى، لا تستند إلى مفاهيم الإيديولوجية اليهودية بل إلى الاعتبارات الامبريالية والاستراتيجية البحتة منذ قيام الدولة، وقد قدم الجنرال احتياط «شلومو غازيت» وهو مدير سابق للاستخبارات العسكرية وصفا رسميا واضحا للمبادئ التي تحكم هذه الاستراتيجية وقال: «مهمة إسرائيل الأساسية لم تتغير قط منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وما زالت ذات أهمية بالغة، والموقع الجغرافي لإسرائيل في مركز الشرق الأوسط العربي - المسلم، يجعل قدر إسرائيل أن تكون حارسا مخلصا للاستقرار في جميع البلاد المحيطة بها، ودورها هو حماية الأنظمة القائمة، ومنع أو وقف التوجهات الجذرية ومنع انتشار الأصولية الدينية المتطرفة، ولهذه الغاية ستمنع إسرائيل التغييرات الحاصلة خارج حدودها إذا اعتبرتها لا تطاق لدرجة الشعور بأنها مضطرة لاستعمال قوتها العسكرية لمنعها واستئصالها». («يديعوت أحرونوت» 27 أبريل/نيسان 1992).

ويعلق على ذلك إسرائيل شاحاك، الباحث والمؤرخ الإسرائيلي المعروف بآرائه الناقدة للتصور الإسرائيلي لطبيعة ودور الدولة العبرية، بقوله في كتابه «التاريخ اليهودي والديانة اليهودية، وطأة ثلاثة آلاف سنة»: «لا حاجة بنا للقول، في رأي غازيت، إن لإسرائيل مصلحة خيرية في المحافظة على استقرار الأنظمة العربية، وتقدم إسرائيل، في رأي غازيت، بحمايتها الأنظمة القائمة في الشرق الأوسط خدمة هامة للدول الصناعية المتقدمة التي تحرص كلها على ضمان الاستقرار في الشرق الأوسط، ويرى أنه لولا إسرائيل لانهارت هذه الأنظمة، وقد بقيت بسبب التهديد الإسرائيلي فقط، وإذا كان هذا الرأي (مرائيا) على ما يبدو، وجب على المرء أن يتذكر مقولة لاروشفوكو: الرياء هو الضريبة التي تدفعها الرذيلة للقضية»!.

هذا هو العامل الإسرائيلي الأساسي في بناء الموقف الغربي تجاه الأزمة السورية، وهذه هي حساباته الحاكمة له، رغم مضي نحو عشرين عاما على كلام الجنرال الإسرائيلي الاستراتيجي شلومو غازيت، لكن النظرة الكبرى هي هي..

ولكن علينا أن نتذكر، قبل هذا كله، وبعد هذا كله، أن هناك أمورا تحدث خارج إطار التخطيط، وخارج إطار الحسبة بالقلم والورقة، هناك مشاعر تنفلت من عقالها، في لحظات معينة، تصنع مصائر الشعوب والأمم، وهناك قوة الأحلام التي ترى أن الفرصة قد حانت لتجسدها على الأرض، وهذا ما لا يرى بالعين المجرة، أو حتى العين المجازية المخططة.

هذه أمور تحدث كما يحدث البرق في لمحة مبهرة من الضوء المتدفق الساطع..

في سوريا ما زالت الأمور بين حدود التخطيط والمفاجأة، والكل يريد توجيه مسار سفينة بلاد الشام إلى مرافئه وموانئه، لكن القرار الأول والأخير بيد بحارة السفينة وركابها وربانها.. ومجرى الرياح والأمواج.

[email protected]