معضلة.. يرحل أو لا يرحل

TT

بعد تركيا يعتبر العقيد القذافي آخر المعترفين بالمجلس الانتقالي في ليبيا في ضوء إعلان المتحدث باسم طرابلس أن هناك مفاوضات تجري مع الثوار في أكثر من عاصمة أوروبية، فكلمة مفاوضات في حد ذاتها تعني الاعتراف بأن الطرف الآخر موجود على الأرض وله كلمته.

لكن كما يقال: الشيطان في التفاصيل، والتفاصيل هنا هي كيف تجري عملية انتقال السلطة، ووضع القذافي؛ هل يبقى أو يرحل، فلا يعتقد أنه يفكر في العودة إلى الوراء، والمرجح أنه يدرك أن أيام نظامه شارفت على النهاية وبقي البحث عن مخرج.

وقد أعلن رئيس المجلس الانتقالي الليبي مصطفى عبد الجليل أنه تم تقديم عرض للقذافي ليبقى في ليبيا إذا رغب في ذلك مقابل أن يترك السلطة، ويسحب قواته إلى ثكناتها، ثم عاد أمس وقال إنه لا مجال أمام القذافي للبقاء وبما معناه أن الخيار الوحيد أمامه هو التنحي والمثول إلى العدالة.

العرض الأول كان يمثل مرونة من قبل الثوار المتمركزين في شرق البلاد من أجل الخروج من الوضع الجامد حاليا في ضوء عدم وضوح قدرة طرف على الحسم العسكري في مواجهة الخطر لكن كان واضحا أنه قد يكون غير عملي.

والدليل رد الفعل السلبي ليس فقط من فريق القذافي الذي لم يرد، ولكن حتى من الثوار أنفسهم الذين يريدونه أن يترك البلاد إلى المنفى على الأقل إذا لم يكن الأمر محاكمته على الجرائم التي ارتكبت.

الرحيل والبقاء في البلاد هو أفضل الحلول كما حدث في حالة الرئيس السابق في مصر مبارك، لكنه حل البدايات أو الأسابيع الأولى، وليس الشهور بعد أن يكون بحر الدم قد اتسع، والثارات تزايدت، وعدد القتلى تضاعف، ولا بد أن القذافي وفريقه يدركون ذلك جيدا، فالبقاء في الداخل بعد تسليم السلطة يعني مواجهة مطالب مستقبلية عندما تستقر الأمور بالمحاسبة خاصة من أهالي القتلى والمدن التي قصفت.

وحتى الثوار أنفسهم سيواجهون معضلة لو قبل القذافي بذلك العرض، فالمشكلة ليست فيه وحده، فكما هو الحال في الدول العربية التي تواجه ثورات حاليا، فإن الزعيم هو رأس جبل الجليد المغمور تحت الماء، وهناك نظام بأكمله مستفيد من وجوده، وسيقاتل حتى لا يرحل، ويحتاج الأمر إلى الكثير من الجهد لتفكيكه وشل مقاومته من أجل بناء وسيطرة النظام الجديد الذي يرتضيه الناس.

لقد أوصل القذافي بلاده إلى هذا الوضع المأزوم فهو صاحب تعبير زنقة زنقة ومن أنتم والجرذان إلى آخر القائمة، وهو من لم يستطع أن يدرك أن «التهريج الثوري» الذي كان يمارسه، ويريد استمراره من خلال توريث أبنائه انتهى زمنه، وفاقت الناس إلى حقيقة أنه في عهده كان المواطن الليبي أقل بكثير اقتصاديا وسياسيا من أقرانه في دول لا تمتلك ما يوجد لدى ليبيا من ثروة نفطية أهدرت في مغامرات خارجية وشراء ألقاب لا معنى لها.

عودة إلى السؤال الأول يرحل أو لا يرحل، والمقصود ليس السلطة فهو قد رحل منها تقريبا بعدما اعترفت العديد من الدول بالمجلس الانتقالي وآخرها تركيا وهو نفسه، كما أن أكثر من نصف البلاد خارج سيطرته وبالتالي فهو أصبح في وضعيته الحالية أقرب إلى عمدة طرابلس وليس زعيم البلاد. المقصود هو أين يذهب؛ يبقى في الداخل أو يخرج للمنفى إذا جرى تأمين اتفاق لانتقال السلطة، وهل هناك أحد يقبله ويضمن له عدم ملاحقته خاصة أنه أصبح مطلوبا للمحكمة الجنائية الدولية.

المخرج قد يكون اتفاقا دوليا طبعا بموافقة المجلس الانتقالي والثوار يكون فيه العرض صريحا بتقديم ضمانات بعدم ملاحقة ومصالحة وعفو عام على غرار ما فعلته جنوب أفريقيا بعد انهيار نظام الفصل العنصري هناك، ليترك القذافي السلطة ويوضع في مكان امن تحت الإقامة الجبرية، بينما يمنع الذين وقفوا معه حتى النهاية من العمل العام والسياسي، وإذا كانت هناك جرائم ضد الإنسانية يكون القضاء هو مجالها.

قد يقول قائل إن هذا الحل لا يحقق العدالة، وهذا حقيقي، فلا بد أن يكون هناك حساب على الجرائم التي ارتكبت حتى لا يكرر أحد ما فعله هذا النظام الذي حارب شعبه، ويكون هذا عبرة لآخرين بألا يسلكوا مثل هذا السلوك، لكن في بعض الأحيان يتطلب الأمر النظر إلى المصلحة العامة، خاصة إذا تم تجنيب البلاد خطر الاستمرار في هذا الوضع المنقسم لفترة طويلة، وتقصير الفترة الانتقالية نحو بناء ليبيا الجديدة.

القذافي يدرك بالتأكيد أنه فقد سلطته وأن القضية هي فقط مسألة وقت، وبالتالي فقد تكون هناك فرصة لتقصير الفترة بالضغط عليه بإظهار أن هناك مخرجا شخصيا إذا أعلن التنحي.