فرح في المغرب

TT

ليس من رأى كمن سمع. كنت في المغرب يوم الاستفتاء على الدستور الجديد، الأسبوع الماضي، في عروس الشمال طنجة، استعدادا لموسم أصيلة الثالث والثلاثين، الذي تحتضنه هذه المدينة الجميلة بقيادة عرابها سي محمد بن عيسى. حقيقة الأمر، كان هناك فرح في كل المغرب، بقدر القلق الموجود في سوريا ومصر واليمن وليبيا، وربما دول عربية أخرى، نتيجة هذا الحراك السياسي الهائل في المنطقة العربية التي تضرب رياحه التغييرية في كل الأركان.. هناك في تلك المناطق التي تعيش الاضطراب، اتسع الخرق على الراقع، فبدأت أشكال من الفوضى تدب والقتل ينتشر والخلافات تتصاعد، والحلول إما مرتجلة أو غير موجودة، وهنا في المغرب استطاع الراقع أن يتفادى توسع الخرق، عن طريق اقتراح دستور جديد ينسجم مع المتغيرات ويلبي الاحتياجات.

ملك المغرب والنخبة المغربية حولت التكتيكات إلى استراتيجية، فبدلا من انتظار ما يمكن أن تأتي به الأيام نتيجة العدوى أو حتى الشعور الحقيقي بأهمية التغيير، وبدلا من المراوحة في المكان عن طريق تقديم إصلاحات شكلية، قدم الملك الإصلاحات الدستورية الجذرية على طبق من فضة للمغاربة.. فبعد خطاب الملك محمد السادس في مارس (آذار) الماضي الذي وعد فيه بإصلاحات، جاء يوم الاستفتاء على مسودة الدستور. في يوم الاستفتاء هذا سافرت على الطريق الطويل، مع أصدقاء، بين طنجة وتطوان.. في كل القرى والتجمعات السكانية التي مررنا بها، كانت هناك أعلام المغرب، وصفوف طويلة تنتظر أن تدلي بصوتها، لا مظاهر عسكرية ولا أشكال من السلطة الظاهرة، كان هناك الكثير من الأعلام الوطنية فقط.

الدستور المغربي الجديد نقلة نوعية في طريقة الحكم بالمنطقة العربية، هو باختصار يعطي ممثلي الشعب المنتخبين سلطة كاملة في إدارة شؤونهم، أي ما يسمى في الأدبيات السياسية «الديمقراطية البرلمانية». تفاصيل الدستور بها كثير من الإصلاحات الحقيقة، حتى أبين بعضها، أعرج على ما يحق للمهاجرين القاطنين في المغرب من امتيازات.. فقد وفر لهم الدستور الجديد الاشتراك في الانتخابات البلدية، على خلفية أن الأعمال البلدية هي لكل السكان وليس للمواطنين فقط. كما اعترف الدستور بعدد من الثنائيات العرقية واللسانية والثقافة التي تعيش على التراب المغربي. سألت صديقا مغربيا مطلعا عن توصيفه لهذه الخطوة السياسية، هل هي إصلاح أم تغيير؟ أجاب دون تردد بأنها تغيير، وهي كذلك بالفعل. لقد شعر الملك أنه يحتاج إلى خطوة كبيرة من أجل أن يجنب المغرب الثمن الباهظ، لو دخل في مسلسل الحراك العربي المشاهد، وهو مسلسل، علاوة على غموض نتائجه السياسية حتى الآن، استهلك رصيدا ضخما من القدرات الاقتصادية، سواء في مصر أو تونس أو اليمن أو ليبيا، وهو طريق قد لا يكون آمنا للمستقبل بجانب الخسائر في الأرواح. المغرب قرأ كل ذلك بتمعن، وقدم حلا مختلفا واستباقيا لكل ما يمكن أن يجري.

المغرب، لنا نحن المشارقة، بعيد، كما أن المشرق للمغاربة بعيد.. الصورة النمطية لدى الاثنين سلبية بتبادل تجاه بعضهما بعضا، حيث لا المغرب ولا المشرق، ما عدا تجارب محدودة، حاول أن يعرف الآخر عن قرب.

المغرب غني بموارده الطبيعية وقدراته الإنسانية.. نشاطه الصناعي والخدماتي والزراعي وتنوع بيئته، يجعل من مجموع إنتاجه المحلي ثاني دولة بعد ليبيا النفطية في الشمال الأفريقي.. قربه من أوروبا وكونه بوابة أميركا اللاتينية إلى أفريقيا والعرب يجعل من موقعه المتوسطي ذخيرة استراتيجية ملحوظة. وهو أيضا عضو مشارك في السوق الأوروبية المشتركة، ويتطلع كتركيا إلى عضوية أكثر قربا لهذه السوق الضخمة. كونه يحمل هذا الهاجس، أي الدخول إلى السوق الأوروبية، يجعله يطور تشريعاتها من جهة، وقدرته الفنية من جهة أخرى، كي يساير المتطلبات المسبقة لهذه السوق.

لقد ضرب المغرب مثلا وشكل قدوة في التغيير السلمي الذي يسعى إليه، ومن هنا إلى نهاية العام، سيكون لدى المغاربة شكل آخر من أنظمة الحكم التي تعتمد على رضا المواطن وخياره من خلال صناديق الانتخاب. الحراك العربي الهائل في مجمله حراك سياسي، أي المطالبة بالحرية بمعناها الحديث وباعتبارها جوهر القيم الإنسانية. فهم هذا الأمر بهذا الوضوح جعل من الرد المغربي الرد الصحيح، وليس التوجه لتفسير الحراك العربي الكبير على أنه عُسرة اقتصادية لبعض الشرائح الاجتماعية، حتى وإن كانت العسرة مشاهدة وموجودة، إلا أن تأهيل الإنسان سياسيا ومشاركته في القرار، وتحميله مسؤولية الاختيار دون تهميش، يجعله شريكا في حل العسرة الاقتصادية أو أية أشكال من العسرة.. إنه الفرق مرة أخرى، بين أن تصطاد للمواطن سمكة، وأن تعلمه كيف يصيد السمك!

«دولة الحق والقانون» هو أكثر ما يتردد على مسامعك في المغرب اليوم، ولكن ذلك لن يتحقق بين عشية وضحاها، كما أن ذلك لا يجعلنا نتجاهل القوى الحية المغربية، وإن كانت صغيرة، التي تقول إن ذلك لا يكفي، وهي تريد أن تناقش التفاصيل، كما لا تعدم من المثقفين المغاربة من يقول إن الأعمال غير الأفكار والواقع غير النصوص، وهي مقولات لا بد من الإصغاء إليها وتفهم دوافعها، فليس للناس في مجتمعاتنا الريفية والحضرية قدرة مطلقة على الاختيار الأفضل لمن يمثلهم، تلك حقيقة لا مجال إلى إنكارها، وقد يقوم بعض هؤلاء المنتخبين باحتكار المصالح باتجاه الشخصنة، بعيدا عن المصالح العامة. كل ذلك وارد في فضاء ثقافي لا يزال مربطا بمفاهيم شبه إقطاعية وقبلية ومناطقية كالمغرب. لذلك، فإن الطريق إلى التغيير في المغرب ليس مفروشا بالورود، إنما تبني النصوص الدستورية المتقدمة يفتح الباب واسعا لتغير شامل؛ إن استُخدم بعقلانية جاء بنتائج على المدى المتوسط باهرة، وهو، على كل حال، قدوة عربية.

آخر الكلام:

العلاقة بين الثقافة العليلة والاستبداد السياسي علاقة وجودية، فها نحن قد عرفنا من قتل رفيق الحريري، إلا أن الثقافة العليلة تقاوم الاعتراف فيستمر الاستبداد السياسي؛ هذه المرة مدعوما بالسلاح!