البيضة قبل الدجاجة تسبب خلافا حول الدستور المصري

TT

حزورة فزورة يرددها المصريون عادة للتعبير عن حيرتهم، أيهما جاء قبل الآخر: البيضة قبل الفرخة أم الفرخة قبل البيضة؟! والآن وبعد مضي نحو خمسة أشهر على قيام ثورة ميدان التحرير لا يزال المصريون حائرين عما تكون خطوتهم التالية: إصدار دستور جديد أم انتخاب البرلمان؟ وبينما يطالب البعض بضرورة إعداد الدستور قبل الانتخابات، يصر آخرون على ضرورة انتخاب البرلمان أولا ثم إعداد الدستور.

هذه الحيرة تحجب وراءها مصالح لكل من الفريقين، فإجراء الانتخابات أولا سوف يمكن الجماعات التي تحصل على الأغلبية البرلمانية - النصف زائد واحد - من اختيار اللجنة التي تضع الدستور بما يوافق مصالحها السياسية، أما عند وضع الدستور أولا فسوف يسهم جميع أفراد الشعب في اختيار الخبراء القانونيين الذين يضعون دستورا يعبر عن الغالبية العظمى للمواطنين. لذلك فإن الأحزاب القديمة تحالفت مع شباب الثورة للمطالبة بوضع الدستور أولا، ودعت إلى مظاهرة مليونية في الثامن من يوليو (تموز) القادم بميدان التحرير لهذا الغرض، كما أعلنت عن خطة لجمع 15 مليون توقيع لمطالبة المجلس العسكري بالموافقة على وضع دستور جديد قبل إجراء الانتخابات.

على الجانب الآخر، يعتقد الإخوان المسلمون أن في استطاعتهم الحصول على أغلبية برلمانية تمكنهم من تحديد شكل الدستور الجديد، لهذا دعا الدكتور محمود حسن - الأمين العام للجماعة - إلى ما سماه الالتزام بنتائج الاستفتاء على التعديلات الدستورية، باعتباره أمرا مقدسا لا يجوز الالتفاف حوله. كما قال الدكتور محمد مرسي - رئيس حزب الحرية والعدالة الذي أسسه الإخوان ليدخل الانتخابات - إن الشعب المصري قال كلمته في الاستفتاء على تعديلات الدستور ويجب احترام النتيجة للخروج من المرحلة الانتقالية بأقل الخسائر. ونقلت جريدة «الغارديان» البريطانية في 22 يونيو (حزيران) عن عمرو موسى - الأمين العام السابق للجامعة العربية المرشح المحتمل لرئاسة الجمهورية في مصر - استعداده لتأييد اقتراح وضع الدستور أولا إذا حدث توافق حوله. وقال موسى إن محاولة بناء نظام ديمقراطي جديد في مصر يمكن أن تؤدي إلى صعود جماعة الإخوان المسلمين. وبحسب «الغارديان» فإن موسى توقع أن يحصل الإخوان على 35 في المائة من الأصوات في الانتخابات المقبلة، وفي استطاعتهم إقامة تحالفات تمكنهم من الهيمنة على البرلمان الجديد وإدارة البلد، وحينذاك ستعم الفوضى ولن يكون هناك دستور جديد.

وحتى نخرج من الحيرة التي وقع فيها المصريون، علينا التعرف أولا على ما جرى منذ 25 يناير (كانون ثاني)، الماضي. فعندما بدأت مظاهرات يوم الغضب في ميدان التحرير، كانت تعبر عن احتجاج الجماهير على ارتفاع الأسعار وانتشار الفقر والبطالة، كما طالبت بحل مجلس الشعب بسبب تزوير الانتخابات وكذلك تعديل الدستور حتى لا يسمح بإعادة انتخاب الرئيس مرة أخرى. وبعد ذلك عندما أعلن الرئيس مبارك عدم نيته للترشح لفترة جديدة ووافق على إجراء التعديلات الدستورية، طالب المتظاهرون برحيله فورا. وأخيرا في 11 فبراير (شباط) أعلن مبارك تنحيه عن السلطة وسلم المجلس العسكري اختصاصات الرئيس خلال فترة انتقالية لحين انتخاب رئيس جديد.

وقرر المجلس العسكري حل البرلمان المشكوك في أمره وتشكيل لجنة لتعديل الدستور برئاسة المستشار طارق البشري، وأجرى استفتاء على التعديلات في 19 مارس (آذار). لكن المجلس بعد ثلاثة أسابيع فقط من الاستفتاء، قام بإلغاء دستور سنة 71 نفسه مما يعني إسقاط التعديلات بالتبعية، وأصدر إعلانا دستوريا يتم العمل به إلى حين وضع دستور جديد للبلاد. بعد ذلك صارت التعديلات الدستورية كأنها لم تكن، حيث إن الدستور الذي جرى تعديله لم يعد له وجود. فالدستور هو الذي ينص على طريقة انتخاب البرلمان ورئيس الجمهورية، ويحدد اختصاص كل منهما وعلاقة سلطات الدولة بعضها ببعض، بينما ليس من صلاحية الإعلان المؤقت - وإن ساعد على تسيير الأمور خلال فترة الانتقال - تنظيم سلطات الدولة بعد هذه الفترة. وعلى ذلك يكون الإصرار على التمسك بتعديل دستور انتهت صلاحياته، غير ذي موضوع.

وإذا تبع المصريون القواعد القانونية السائدة في جميع البلدان، يصبح من الضروري وضع الدستور قبل إجراء الانتخابات، حيث إن الدستور هو الذي يحدد سلطات البرلمان واختصاصاته. وهذا هو ما حدث بالنسبة إلى دستور الولايات المتحدة، الذي يعتبر أقدم دساتير العالم، صدر في 1787، وشكل الأركان الثلاثة للسلطة: الكونغرس الذي يقوم بتشريع القوانين والإدارة وعلى رأسها الرئيس المنتخب والمحكمة العليا التي تتأكد من صحة تطبيق القوانين. وهذا هو أيضا ما حدث بالنسبة لدستور الثورة الفرنسية الذي صدر في عام 1791، وهو كذلك ما حدث عند وضع أول دستور مصري بعد ثورة 19. فبعد إعلان بريطانيا إلغاء الحماية عن مصر قامت لجنة بوضع دستور في سنة 1923 للدولة المستقلة على أساس نظام الملكية البرلمانية، تكونت من المفكرين ورجال القانون ورجال الدين والأعيان ورجال الأعمال. منح الدستور غالبية السلطات التنفيذية للحكومة، بينما يتولى البرلمان سن القوانين ومراقبة أعمال السلطة التنفيذية.

بعد انتهاء لجنة الدستور من عملها، أصدر الملك فؤاد أمرا ملكيا بالدستور الذي تكون من 170 مادة وقرر أن مصر دولة ذات سيادة وأن الأمة هي مصدر السلطات، كما ساوى الدستور بين المصريين أمام القانون وكفل حرية الاعتقاد وحرية الرأي وحرية الصحافة. ونص الدستور على تكوين برلمان من مجلسين: النواب بالانتخاب والشيوخ ينتخب ثلاثة أخماسه ويعين الباقون. ثم صدر قانون الانتخاب الذي جعل حق الانتخاب للمصري البالغ 21 سنة. وبعد صدور الدستور أشرف يحيى إبراهيم - رئيس الوزراء - على إجراء انتخابات برلمانية في يناير 1924، وتمكن حزب الوفد فيها من الحصول على الغالبية العظمى من المقاعد، فتقدم يحيى إبراهيم بالاستقالة ليشكل سعد باشا في اليوم التالي الوزارة الشعبية الأولى.