استراحة مع مواطنين عرب

TT

صدفة غريبة وجميلة جمعتني بسوري ومصري وتونسي ويمني (كان ناقص واحد ليبي مع الأسف)، وطبعا كان الحديث الذي دار ينصبّ على أحداث الثورات في بلادهم وأهم أسبابها وأبرز نتائجها المتوقعة. التونسي كان يتحدث بإسهاب عن سيطرة الدائرة المقربة من الرئيس على مجريات الأمور السياسية، وخصوصا الاقتصادية، وأن مفاتيح تحريك الأمور وتفعيلها أصبحت في أيديهم إلى درجة أن الرئيس زين العابدين بن علي بحسب التوانسة كان يعتقد أن صلة الرحم تعني عمليا توزيع المناصب على أقربائه وأصهاره، حتى استشرى الفساد في البلاد ليصبح سرطانا لا يمكن التعايش معه، وكان بالتالي من الضروري أن يكون الحل الأخير استئصاله جراحيا!

أما المصري فكان له هو الآخر رأي عن الفساد، وقال بتعليق ساخر إن إدارة المحليات بالمحافظات استولت على أراضٍ من الدولة ومن الناس أكثر مما استولت عليه إسرائيل في كل الحروب، وما يتم دفعه كمخالفات للمباني ورشى للمراجعين يفوق ميزانيات وزارة الدفاع والداخلية، وهو الذي ولّد العشوائيات المرعبة التي أنتجت الكثير من العلل، وهي أشبه بـ«سايس بيكو» تنموية مفزعة!

أما الأخ اليمني فكان يسخر من «تفجير» السلطات اليمنية لمجاميع أصولية ودينية متشعبة بهذا الشكل وتوظيفها أمنيا وسياسيا لأجل صالح البلاد ونظام الحكم فيها، حتى بات الحديث عن التيار الديني يدخل السجن والمعتقل، والحديث عن التيار الكهربائي يبقى تخاريف وأوهاما. اليمن بحسب ما قاله مواطنه تحول إلى دولة فاشلة راعية للفوضى حتى يستبد النظام. وهنا تنهد السوري طويلا وملأ رئتيه وقال: «نحنا (بوفيه كامل مكمّل)، إذا تحدثتم عن التوريث فنحن الوحيدون الذين نجحنا في تنفيذه وليس فقط الكلام عنه أو التخطيط له، الفساد؟ هو أيضا بخير ورامي أيقونته، والمقاومة نحن الذين اخترعنا المقاومة ومن الباطن، إبادة بلا عقاب أسألوا أهل حماه عن ذلك». ولكن السوري المعروف بهدوئه الشديد وببرود أعصابه انفجر، واحذر الحليم إذا غضب: «لقد أُهنّا بما فيه الكفاية وتم ذلّنا بما يفوق الحد».

المصريون اعتقدوا أن البلهارسيا وفيروس الكبد الوبائي وانتشاره بهذا الشكل المرعب هو أحد شروط معاهدة كامب ديفيد للسلام، والتونسيون كانوا يعتقدون أن ارتفاع نسبة البطالة وسطوة الاستخبارات هي من نتاج المدنية العلمانية، والسوريون وصلوا إلى قناعة أن من أهمية أن تكون بعثيا حقيقيا ومنتميا إلى الحزب بجدارة أن لا تستمتع بالكهرباء أكثر من أربع ساعات يوميا، وفي اليمن كان الاعتقاد بأنك وطني حقيقي أن تكون شماليا أولا وأخيرا وليذهب الباقي إلى الجحيم.

مفتاح كل هذه العلل كما يبدو واضحا هو الفساد الذي ولّد الاستبداد، فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم والولائم والرشى والمصائب والبلايا، باب مفتوح بلا حدود تفصل له القوانين والأنظمة والدساتير لحماية المصالح الضيقة والمحدودة لصالح المحاسيب والأنصار، فهناك فارق كبير جدا بين القانون الجاهز الذي يسع الكل ويحمي الجميع ولا يفرق، وبين النظام التفصيل الذي يعتمد على «باترون» محدد جدا ويقوم خياط الأنظمة بحياكة وصياغة القماش ليلبسه شخص بعينه وجماعته.

عندما أهملت قيمة العدل وقيمة القانون وقيمة الأمانة على حساب شكليات الدين والعبادة أصبحت الأمور وآلت إلى ما هي عليه. عندما تركب في سيارة التاكسي فيُعلي السائق صوت القرآن بدلا من أن يشغل العداد، أو يضع أحدهم آية قرآنية على محله ويبيع بضاعة مغشوشة، أو يقوم للوضوء ساعتين وهو متأخر عن دوامه ست ساعات. الفساد وتوظيف الدين في غير مصالح العباد وقضاء حوائجهم وإنجاز مصالحهم بالحق والعدل، هذه هي كبرى الآفات في المجتمعات العربية، يشكو منها من يشكو وتختلف فقط في حدة وسرعة انتشارها وبالتالي ظهور أعراضها. أجمع الرجال على أن بلادهم كشفت ما كان مستورا، وفتحت الصناديق السوداء للكوارث التي كانت تسبب مصائب بلادهم، ويعتقدون أن مواجهة المشكلة والاعتراف بها أول طرق الحل والعودة إلى جادة الصواب.

والأيام قادمة.. فلنتابع.

[email protected]