هل كان «عمرو موسى».. كصالح في ثمود!

TT

ما انفكت الجامعة العربية وأجواء قضاياها وآلامها وآمالها، تشغل حيزا وافرا من فكري ووقتي وجهدي، فلقد طالما شهدت عبر مداولاتها المتطاولات، وفي ثنايا لقاءاتها الخفيات، كثيرا مما يستحق أن أفرد له الصفحات، فلقد كانت – وما زالت – تجربة ثرة في فصولها، إذ تكشف – كما لا تكشف تجربة أخرى - عن ضخامة الإمكانات التي تتمتع بها هذه الأمة، كما تبين عن الهدر الممض الذي يطال هذه الإمكانات فيحيلها إلى محض ترهات وفيض من الكلام لا يسنده عمل في غياب الإرادة الناجزة، التي تعرف مكامن الفعل ومآثر الإنجاز.

والحق أن جموع الشعب العربي الكبير، على الرغم من فداحة إحباطها المتصل منذ سنوات التحرير والاستقلال، وعلى الرغم من مثارات الخلاف، وركون جامعتهم إلى بيئة الانشقاقات - فإن الجامعة بقيت في أفئدتهم تحتل مقاما حميما، وكأن حالهم يقول إن تفتتت الأحلام وأطاحت زعازع الخلاف بالآمال، فلا أقل من أن نصون الشارة الوحيدة الدالة على أن ثمة حلما عربيا بالوحدة والتواصل.

ولعل قضية من قضايا الجامعة المتكاثرات، لم تسيطر على مخيلتي كما سيطرت «قضية الإصلاح»، التي انسربت في ثنايا الفكر، وألقت بظلالها على لقاءاتي بالإخوة المسؤولين العرب حيثما جمعني بهم لقاء، وفي صدارة أولئك الصديقُ الكبير، ذو القلب العامر بمحبة أمته، الأخ «عمرو موسى» الذي وهب الجامعة خير ما تكامل في شخصيته من ألمعية وشفافية وهمة وذكاء، فجعل من قضية الإصلاح هما ناطقا، يغشى به كل منتدى، ويشيعه في كل ملتقى وحوار، حتى لكأنه المعنيّ بالإصلاح دون سابقيه.

وقد ظللت أدير مفردة «الإصلاح» هذه في ذهني محاولا أن أجد لها إيقاعا حقيقيا بالاعتماد عليه في خضم التعريفات والنظريات المتكاثرة، فمنذ منتصف القرن المنصرم، وهذه المفردة جائلة، صاعدة، هابطة، دون أن تستقر على حال، إلى الحد الذي انطبق عليه إنشاد المعري - بعد تعديل طفيف:

كل يعزز «رأيه»

يا ليت شعري: ما الصحيح؟

فقد تماهى مصطلح «الإصلاح»، مع مصطلح «الثورة»، لا ترضى بفكاك منه، ليطير «اليسار الأحمر» منفردا بالمصطلح، إذ لا ثورة عنده بلا إصلاح.. كما لا إصلاح بلا ثورة، مثل كل مقولاته التي صار التبرؤ منها اليوم، هو عين «الإصلاح»، في نظر الغرب الضاحك بسيطرة رؤيته، فلا فلسفة سوى فلسفته (الغرب)، تحدثكم عن الحكم الراشد «Good Governance» كميزان «للإصلاح» «Reform»، كما يتراءى لمنظريه في غمرة نشوتهم بمشاهد نهاية التاريخ!!!

ولقد سرح خاطري بعيدا، مع تواتر الخلاف الجديد في أروقة المنظمة الرياضية الأعتى «الاتحاد الدولي لكرة القدم» (فيفا)، وقفزة مصطلح «الإصلاح» كمطلب أساسي داخل تلك المنظمة التي ظلت في أذهان الناس مثل الديباج المخملي: ناديا هانئا، وارف الظلال، تتسامر فيه الألفة والأناقة والهمسات.. فجأة، وإذا بلفظة الإصلاح تنبه الحالمين، فتهتز جدران المقام السويسري، الذي ظنه الناس – طويلا - عصيا على تقحم مصطلح الإصلاح.. فجأة، وإذا بكل شيء ليس ككل شيء، في هذه المنظومة المرفهة، التي صرخ يوما الأمين العام للأمم المتحدة السابق كوفي أنان قائلا إنه يتمنى «لو أن له بعض ما لرئيسها (بلاتر) من صولجان ومال وجاه».. ولعل ذلك هو عينه مربط الفرس.. فحيثما وجدت السلطة والنفوذ، ترعرعت نبتة الإصلاح همسا، ثم لا تلبث النبتة أن تغدو ذات جذع صلب يزاحم الرغبات والأفعال المتحصنة بالسلطة.. حتى ولو في أروقة الـ«فيفا»!!!

فما هو هذا الكائن السحري العنيد المسمى (الإصلاح)، الذي بات له من الهيل والهيلمان ما لا فرق عنده بين سدة الرئاسة في منشية البكري، وشواطئ المنستير، وباب العزيزية، وتلال قاسيون، وملتقى النيلين في الخرطوم، وضفاف الخليج واتحاد الكرة العالمي!! بمعنى آخر: هل نحن متفقون - اليوم – جميعا على مبتغى واحد من الإصلاح، اتفاقنا على أهميته؟؟ هل نحن على وفاق مع المصطلح في أبعاده الاجتماعية – السياسية، التي لا ترى مآلا ناجحا لحركات الإصلاح ما بقيت بمعزل عن الجذور الاجتماعية وتشكلاتها الطبقية؟ أم نحن على وفاق مع المصطلح في فلسفته الليبرالية التي لا ترى للإصلاح صيرورة دون أن يتحصن بالتقانة وآلياتها الإدارية المستجدة، بلا إيغال في تفاصيل الحاجات الاجتماعية؟ ثم ما هو النمط الذي يتحتم على «الإصلاح» اتخاذه؟ أهو التعديل والتقويم: لقد قال عمر بن الخطاب بالأمس، مشيرا إلى ذات المعنى، مخاطبا رعيته: «ألا إن أخطأت فقوموني»، نهض واحد من رعيته مستفيضا: «والله إن أخطأت لقومناك بسيوفنا»، فيجيب عمر: «الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من يقومه بسيفه إن أخطأ».. ولم تمض الحادثة – بالطبع – دون اعتبار، فقد كان «التقويم» عند عمر أمرا ملحا، غير أن ذلك الرجل الذكي، أراد أن يبلغ بالمصطلح نهاياته القاصدة: «التقويم سيفا».. وهنا مربط تساؤلات متكاثرة عند الذين جاءوا من بعد محاذرين من الخروج على ولي الأمر، محذرين، أو فريق آخر يرى في مقولة الرجل العمري إيذانا بأن يأخذ الإصلاح مداه وإن أخرج السيف من غمده!!

إن الرؤية الإسلامية لمفهوم «الإصلاح» تستفيض لا من منطلق تباين وجهات النظر، بل من مركزية المفهوم نفسه وضخامته في مصدر التشريع الإسلامي الأساس (القرآن الكريم)، فمادة الفعل الثلاثي «صلح»، تمتاز بثراء عرفاني شديد الوضوح والنفاذ في آي الكتاب الحكيم.. يقول المفكر الإسلامي السوداني الدكتور التيجاني عبد القادر إن لفظ «الإصلاح»، ورد في القرآن الكريم في أكثر من مائة وثمانين موضعا، هي المواضع المتكررة، ثم يوضح أنه انتهى – بعد حذف المتكرر – إلى ثمانية عشر موضعا، هي التي تحتوي على المعاني الأساسية التي فصلت المائة وثمانين موضعا الآخرين، ثم إنه عمد إلى تقسيمها إلى عدد من الحقول الأوسع استيعابا، كحقل النزاع الأسري، أو حقل النزاع العشائري، أو حقل النزاع السياسي الآيديولوجي، وكلها مما يذهب معه الدكتور التيجاني إلى نتاج مفاده أن مفهوم الإصلاح «لا يستطيع أن يقف وحده منفردا ليكون أداة تفسيرية، وإنما هناك مجموعة من المفاهيم المتصلة به، ومن هنا فإن بمقدور الباحث صنع إطار تصوري، أو نموذج تفسيري، إن أفلح في تتبع شبكة المفاهيم المنبثة في ثنايا آيات القرآن...». والحق أن الدكتور التيجاني عبد القادر ينفذ إلى أسس الخلل الذي اعتور تناول مفهوم الإصلاح في مناهج الشرق والغرب، وذلك الخلل إنما هو الاجتهاد في جعل مفهوم الإصلاح منبثا من مجموع المفاهيم الأخرى، إذ ليس محوره – لدى الإسلام – صراعا طبقيا، ولا تقانة مادية وإدارية تتلفع بأثواب الشفافية والعدالة، وإنما هو «شمول» يتساوق وحياة المرء مرعيا بضميره الذاتي تقى وأمانة وإرادة فاعلة، وانتهاء ببناء الدولة في هيكلها السياسي والإداري: عدالة ومساواة وكفاءة.

أما النموذج الغربي / الوضعي لمفهوم الإصلاح، فقد طلع في شكل حركة مناهضة - أول ظهوره - هدفها إصلاح الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا الغربية (القرن السادس عشر)، وذلك إثر استفحال المظاهر الخاطئة غير اللائقة داخل جسم الكنيسة، وفي صدارتها بيع صكوك الغفران، ففي عام 1517م نشر الجيرماني مارتن لوثر أطروحة في نقد الكنيسة تضمنت 95 بندا شكلت محورا لإصلاح الكنيسة، وقد كان نتاج ذلك ضمور السلطة البابوية الروحية أمام تنامي السلطة الزمنية السياسية الاقتصادية، ليهيمن إقطاعيو أوروبا بمساندة ساستها الملوك ردحا من الزمان انتهى بقيام الثورة الفرنسية التي كانت فاتحة الإصلاح السياسي الاجتماعي في أوروبا، والذي آل في نهاية المطاف إلى العصف كلية بالمصدر الروحاني الكنسي في مقاربات المجال السياسي، الذي تحول جملة إلى كيان وضعي بحت.. وذاك يشكل نقطة الخلاف الرئيسة حين نقارنه بالنمط الإسلامي المحتكم إلى حزمة من المفاهيم والأطر والآليات التي تنشد التقويم ابتداء، ثم تتدرج وفق تراتبية منطقية إلى أن تصل حد الثورة، ومن منطلق شامل النظرة يتحمل فيه الفرد مسؤولية جسيمة باعتباره أصلا للمجتمع.

ولعل شمول المنظور الإسلامي هو الذي يسندنا في النأي عن تفاصيل مفهوم الإصلاح إداريا كان أم سياسيا أم اقتصاديا.. فما نحن بإزائه – أعنى الجامعة العربية – بيئة صالحة لتطبيق المفهوم على نشاطها، حين نتساءل:

* هل يمكن إصلاح الجامعة بمنأى عن إصلاح السياسة العربية؟

* ما المقصود إذن بإصلاح الجامعة إن كان من المستحيل – في الراهن المنظور – حدوث إصلاح جوهري على نطاق السياسة العربية؟

* هل تجسد عملية الإصلاح في الجامعة عملا تراكميا يفضي بتكامل المعرفة والتجارب فيه إلى بناء رؤية كلية.. أم أن الأمر يجيء على غير سابقة معهودة؟!

إن الإجابة عن جملة الأسئلة المدرجة هنا، يمهد الطريق أمامنا لتناول موضوعي – لا يخلو من وشيجة إكبار – نسترشد به في تتبع الجهود المضنية التي قادها أخي الأمين العام عمرو موسى طيلة سنوات عشر، جسد فيها موضوع الإصلاح حجر الزاوية في نشاطه الفعال وطاقته التي يحسد عليها، إلى الحد الذي جعل كل زيارة من زياراته لأي من أقطار المنظومة العربية، ترتبط ارتباطا حتميا بموضوع الإصلاح، بل إلى الحد الذي وضع قضية الإصلاح في الجامعة باعتبارها بندا رئيسا في الاجتماعات الراتبة، سواء أكانت وزارية أم اجتماعات قمة.. وأعرف حقا - من خلال اقترابي ومشاركاتي – مدى العنت الذي ظل يجابهه الأخ عمرو موسى، فما فل من عزمه ولا نال من حماسته، فلقد انطلق عمرو في محاولات الإصلاح، تنظيرا وتأطيرا وعملا، من قناعته الراسخة بدور الجامعة العربية، تلك القناعة التي أومأت إليها في كتابي (الأمن القومي العربي)، حين عرضت مقتطفا من خطاب له إبان القمة العربية في دمشق في مارس (آذار) 2008، قال فيه: «تنعقد هذه القمة والغيوم تملأ الجو العربي الذي أصبحت قتامته مضرب الأمثال وباتت سلبياته تضرب في جذور النظام العربي، وتخلق حالة من الالتباس السياسي والارتباك في الأولويات والاضطراب في العلاقات العربية – العربية، وتكبيل الحركة الجماعية نحو المستقبل، وإيقاف عجلة الإصلاح الشامل التي دعت إليها قمتكم في تونس التي عقدت عام 2004، وقد صاحب ذلك اضطراب مواز في العلاقات العربية الجماعية مع الغرب التي ترجمت إلى موجات من العداء للعرب والمسلمين والشك في ثقافتهم ومقاصدهم والرغبة في استثارتهم وإشغالهم، وربما إهانتهم وتجاهل حقوقهم واستهداف هزيمتهم، وقد أدى ذلك كله إلى حالة غير مسبوقة من الخلل في الوضع الإقليمي وهو خلل تعانيه منطقة الشرق الأوسط على اتساعها والمنطقة العربية على وجه الخصوص، وهو خلل يحتاج منا إلى وقفة مراجعة مع الذات وإرادة سياسية للإصلاح على مستوى أقطارنا العربية وإصلاح الجامعة العربية بل إعطائها الحرية والقوة المطلوبة لتقود عملية الإصلاح في العالم العربي، فإما هذا أو الطوفان!».

ثم يمضي الأستاذ عمرو موسى في كلمته فيقول للقادة الـعرب: «اسمحوا لي أن أمضي في الحديث بكل الصراحة لأقول: إننا نعاني أزمة ثقة فينا، وفي ما بيننا، نعم لقد وصل الأمر إلى درجة غير مسبوقة في تلاعب قوى دولية بقضايانا وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ربما استخفافا برد الفعل العربي أو توقعا له ردا مضطربا متفاوتا بين المعلن والخفي وبين الحاسم والمتردد، مما أوقعنا في لجة من التناقضات». ويمضي الأستاذ عمرو موسى متحدثا عن الأمن القومي العربي قائلا: «إن الأمن الإقليمي مهدد ومعه الأمن القومي العربي، ولا يجب أن نتسامح أو ندير ظهورنا لمشاكل كبرى تمس الكيان العربي ذاته دون وقفة أو وقفات حاسمة تتبنى مواقف قوية تضع في الاعتبار توجهات الشعوب العربية ومناداتها بالإصلاح الشامل لكي نحافظ على المصالح العربية ونحقق السلام والاستقرار في المنطقة كلها. إن المواقف القوية لا يمكن أن تضر طالما كانت رصينة وعاقلة، والحفاظ على مصالحنا لا يصلح أن يكون محل نقاش أو تردد» انتهى الاقتباس. فهل كان موسى كصالح في ثمود؟

أذكر أنني تحدثت مع الأخ عمرو موسى بعد الانتهاء من إلقاء خطابه هذا، فهنأته به قائلا: «أحسدك يا عمرو على هذه الجرأة، ولكن هل من مجيب؟ فما لجرح بميت إيلام!».

كان كل ذلك تحذيرا ووعيدا للأمة العربية وللقادة العرب بالويل والثبور وعظائم الأمور ما لم تهب الأمة وتتسلح بمشروع للإصلاح الشامل، يعلي من شأن الحريات، ويزيل الظلم والاستبداد والفساد، ويراجع مسيرة التبعية والإذلال والهوان، مشروع نهضوي يفعل طاقات الأمة المعنوية والمادية والبشرية والطبيعية. ولكن، «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم». عندما تم ترشيح عمرو موسى أمينا عاما للجامعة العربية أصابت الدهشة الكثيرين، فالرجل أعطى الدبلوماسية المصرية الحيوية والجرأة المطلوبة، وأذكر أنني سألته في حينه: هل من وراء ذلك مؤامرة؟ فلم ينفها. حينها كان العقيد معمر القذافي في زيارة للسودان، وفي خيمته التي تم نصبها داخل منزل الرئيس البشير جرى استدعائي والأخ علي التريكي، وكان كلانا يتولى موقع وزير الخارجية في بلده. بدأ الحديث العقيد القذافي قائلا: «لقد اتصل بنا الرئيس حسني مبارك وأبلغنا بترشيحه عمرو موسى أمينا عاما للجامعة العربية ورحبنا بذلك». تحدث الأخ علي التريكي وأثنى على شخصية عمرو موسى، فتوجه نحوي الرئيس عمر البشير قائلا: «مالك لا تعلق! هل ستجد شخصا أفضل من عمرو موسى؟». قلت وقتها: «لا ليس عندي أفضل من عمرو موسى للجامعة العربية، ولكني أفكر في من سيكون وزيرا لخارجية مصر، فهو بالنسبة لي أخطر وأهم من موقع أمين عام الجامعة العربية». فأمّن العقيد القذافي على حديثي.

منذ تولي عمرو موسى لموقعه في الجامعة العربية وهو يطرح قضية الإصلاح، طرحها في قمة الجزائر، وطرحها في قمة تونس فكانت سببا في إلغاء القمة، ثم تواصل طرحه في كل القمم العربية التي تلت. لكنه كان كـ«صالح في ثمود»، وقد فكر أكثر من مرة في الاستقالة، خاصة في قمة الجزائر، وكنت دائما أثنيه عن ذلك وأحثه على الاستمرار في جهوده ومحاولاته. لا أدري ربما كان لسان حاله يردد ما قاله نزار رحمه الله:

وإذا السيوف تكسرت أنصالها

فشجاعة الكلمات ليس تفيد

وكأني به، الآن، بعد تلاحق الثورات العربية، يقول:

أمرتهمو أمري بمنعرج اللوى

فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد

* وزير خارجية السودان الأسبق