خمسون همنغواي

TT

ذكرى مرور خمسين عاما على انتحار إرنست همنغواي، فيها شيء شخصي. كنت أحلم، والأحلام لا يعول عليها، أن أصبح ذات يوم كاتبا مثله. وقد شجعني الزميل الحبيب جميل الوف على ذلك بكل صدق. ولم يبق سوى أن أسافر إلى باريس لكي أبدأ من حيث بدأ. وبعد أيام تعرفت في مقهى إلى فتاة فرنسية فسألتني ماذا أفعل، فقلت لها ببساطة فائقة، إنني هنا لأحاول أن أكون همنغواي آخر. وضحكت، وقالت، أيضا ببساطة: «أعتقد أنك سوف تكون حطابا جيدا».

لم أحقق حلمي ولا أيضا توقَّعها. وأعتقد أن الحلم كان يفترض المزيد من الجهد وليس المزيد من التسكع. ولو عادت الأيام مرة أخرى، لأعدت كتابة كل تلك الأسفار والرحلات والتحقيقات التي ظننت أنها بداية الطريق نحو الرواية، وبذلت فيها جهدا أكبر وبحثا أكثر ونقدا أعمق. الحقيقة الوحيدة هي أن همنغواي طغى على المشهد الأدبي في القرن العشرين. غطى خمس حروب من أجل أن يخرج بمجموعة روايات بدت وكأنها امتداد لعمله الصحافي. ازداد اقتناعا بعمق، أن الصحافة هي أفضل الطرق إلى الرواية. كتبت ذلك هنا قبل سنوات عن تجربة غابرييل غارسيا ماركيز. وأعتقد أن الرسائل الصحافية التي بعث بها البولندي رزيارد كابوشنسكي، من طهران وإثيوبيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا، كانت أجمل من أي رواية.

عندما أقرأ أديبة الإنجليز، فيرجينيا وولف، أعتقد أنها كانت أول صحافية بريطانية مارست الأدب على أنه صحافة يومية، وليس العكس. همنغواي نقل إلى الرواية الأسلوب الصحافي. عمل سائق سيارة إسعاف في الحرب لكي يعيش التجربة في أمرّ لحظاتها. ذهب إلى الحرب الأهلية في إسبانيا ليكتب منها أعمق أعماله: «لمن تقرع الأجراس». حضر حفلات مصارعة الثيران يوما بعد يوم وعاما بعد عام، لكي يصوّر، مثل الرسامين، كيف يحافظ المصارع على هدوئه في وجه ثور هائج له قوة سيارة مسرعة.

من غرائب الصدف أن الصحافي همنغواي والصحافي ماركيز جمعتهما علاقة خاصة مع كوبا. الأول قرر الانتحار هناك ببندقية الصيد التي حملها في مغامراته بأفريقيا. وفي هافانا وضع كتابه الشهير «العجوز والبحر». لكن ربما كانت تلك الرواية الوحيدة التي لم يبنها على شخصية حقيقية. والآن لم يبق الكثير من آثاره يتلاءم مع مزاج العصر. لم تعد قصص الحروب تفاجئ الإنسان الذي تبلد على رؤية الدماء. لقد تحولت نشرة الأخبار اليومية إلى مصور يملأ أمسياتنا بالجثث والقصص وحكايات «الموت العادي».