عندما تستطيع أن تعمل أي شيء!

TT

أعرف جيدا ما الذي يشعر به الطالب عندما يسافر إلى الخارج.. عرفت هذا الشعور عندما جئت وحدي من المنصورة إلى القاهرة طالبا في الجامعة؛ كنت أتهيب كل شيء، ولا أعرف حجم الأشياء ولا وزن العلاقات الإنسانية، وإنما غريب في بلاد غريبة.. وعرفت ذلك أكثر وأعمق عندما سافرت إلى أستوكهولم، وكنت حتى ذلك الوقت لم أر مدينة الإسكندرية إلا من الطائرة!

ولم يغب عني معنى أن يكون الإنسان مقيدا، ثم ينطلق، أو تكون حياة الإنسان كلها قيودا، وفجأة يجد نفسه حرا تماما بلا خوف من أحد أو على أحد.. فجأة تختفي من حياته تهديدات الأم وتلويحات الأب، ولا توجد صورة ناظر المدرسة، أو عسكري المرور، أو نبرات رجل الدين.. إنه يستطيع أن يعمل ما يشاء عندما يشاء، فلا مشيئة لأحد فوق عنقه، وإنما هو المشيئة نفسها!

أعرف ذلك جيدا، وقد رأيت ألوف الطلاب المصريين في الخارج، وجلست واستمعت وعذرت، وحزنت وسعدت، وشجعت عشرات الألوف على السفر والألوف على الهجرة وعلى العمل في الخارج، ويوم كانت الأقلام ترتجف من الدعوة إلى الهجرة كنت أزف المهاجرين إلى كل ميناء وكل مطار، لأنه لا بد أن نرى الدنيا، وأن نكبر، وأن نعمل من أجل أنفسنا ومن أجل مصر ما يشرفنا ويرفع قدرنا بين الأمم، وقد فعل ذلك مئات الألوف من المصريين في كل القارات، وهم سعداء ونحن أيضا.

وتربطني صداقات طويلة عميقة بكثير من المصريين في الخارج، وأشارك في حل قضاياهم، وسعيد بذلك، وكثيرا ما قسوت على الأصدقاء والأشقاء الصغار، ولكني كنت أخا وصديقا وهاديا للجميع، ولا أزال، والحمد لله.

والحقيقة أنني رأيت بعض الشبان ولم يعجبني سلوكهم، ولكني رغم ذلك عذرتهم.. فلو كنت مثلهم وفي سنهم وفي ظروفهم الغريبة المغرية، ما فعلت أكثر مما فعلوا.. ولكن كم تعذبنا في حياتنا لأن أحدا لم يقل لنا كلمة حق أو لم يواجهنا بصراحة جارحة، لو فعل أحد ذلك، لوفر علينا المال والوقت والطاقة، ولكن لم نجد الناصح الأمين في أكثر سنوات العمر!