أين ذهبت فلوس الأميركان في مصر؟

TT

ارتفعت أصوات كثيرة في الغرب تطالب الرئيس الأميركي بارك أوباما بـ«خطة مارشال» للشرق الأوسط، أي دعم أميركي للدول التي تعاني من تبعات الثورات والاضطرابات والتحول إلى الديمقراطية.. وبسرعة قرر الأميركيون ضخ مبلغ مليار دولار بشكل عاجل للدولة المصرية، و400 مليون دولار لمنظمات المجتمع المدني، ومنذ توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل وأميركا تضخ أموالا في مصر قيمتها 2.1 مليار دولار سنويا، نعرف أن 900 مليون منها تذهب إلى مساعدة الاقتصاد، وبقيتها يذهب إلى الجيش، ولكن لم نعرف حتى الآن وفي عهد مبارك كله أين ذهبت فلوس الأميركان، أو حتى فلوس غير الأميركان التي كانت تصب في مصر. والمسألة لا تقتصر على فساد الحكومة، بل هي تمتد إلى فساد مجتمع برمته، والأميركان يسهمون في استشراء الفساد في مصر، بطريقتهم الغامضة في المنح. فهل يقول لنا الأميركان أين ذهبت الـ«400 مليون الأخيرة»، أي لمن من منظمات المجتمع المدني؟ هل لكم أن تطلعونا على قائمة المستفيدين؟ فالعمل في الظلام لا يدعم الديمقراطية، فأساس الديمقراطية الشفافية. أموالكم يا سادة تدعم نخبة فسدت حتى النخاع وتعاني من شره شديد للمال.

في عام 1997 كنت في واشنطن، ورأيت مشهدين دالين على هذا الشره؛ المشهد الأول كان متمثلا في رغبة السفير أحمد ماهر، سفير مصر في واشنطن يومها، الذي أصبح وزيرا لخارجية مصر في ما بعد، وهو يحاول ومن خلال شركات الدعاية الأميركية أن يقنع الكونغرس بأن يسلم المساعدات للمصريين عن طريق شيك مباشر، حتى لو جاء الدعم أقل مما كان عليه يومها.. «الحكومة تريد الشيك..»، هكذا كان المطلب يومها بلغة شعارات الثورة. ورفض الأميركان موضوع الشيك، ولكن المحاولات لم تتوقف. الحكومة لم تكن تريد أي رقابة أميركية على الأموال بعد إعطائها الشيك، رغم رقابة الأميركان الضعيفة جدا التي أدت في النهاية إلى تهريب هذه الأموال بعيدا عن مقصدها الأصلي.

المشهد الثاني هو مشهد سيدة من ذوات قصات الشعر على غرار عارضة الأزياء العالمية سيندي كراوفورد، التي كانت قد تقدمت للحكومة الأميركية بعرض يهدف إلى تنمية ثقافة المرأة في الصعيد وينقلها من عالم ختان الإناث إلى عالم الحداثة، وكان العرض متعدد الجوانب بلغت قيمته أكثر من مائة مليون دولار في سنتين، ولما التقيت بها، سألتها إن كانت لها أصول من الصعيد، فأشاحت خصلة شعرها الأمامية للخلف وقالت: «أنا طول عمري ما رحت الصعيد، وأخاف أروح هناك، دول ناس في منتهى الهمجية». بالطبع قابلتني في سياق حديث جاءت تتحدث به في جامعة جورج تاون الأميركية، ولم تتوقع المفاجأة لما قدموني لها على أنني بروفسور في جامعة جورج تاون صعيدي أيضا، وأن ما قالته سبب لي جرحا بقي حتى يومنا هذا. المهم أن الصعيد كان «سبوبة» لدى هوانم الزمالك وغاردن سيتي.. لم يذهبن إلى الصعيد، وأقمن مئات الجمعيات التي تهدف إلى تنمية الصعيد على الورق، مع أنها «سبوبة» كما يقول المصريون، أي طريقة عرفن بها هؤلاء الهوانم كيف يحلبن البقرة الأميركية للمعونة والحصول على دعم منها هو في الأساس يصرف على بذخهن كسيدات مجتمع في القاهرة، رغم أنهن لم يذهبن إلى الصعيد مرة واحدة.. القصة وما فيها نصب واحتيال وفساد. فهل بعد كل هذا يريد الأميركان خطة مارشال لمصر؟

بعد الحرب العالمية الثانية وتحديدا في عام 1948 قررت الولايات المتحدة المساعدة في إعادة بناء الاقتصادات الأوروبية في الدول التي دمرتها الحرب، يومها دعمت أميركا الأوروبيين بمبلغ 13 مليار دولار ضمن خطة سميت على اسم وزير خارجية أميركا في حينها جورج مارشال، وعرفت في ما بعد ببرنامج مارشال لإعادة بناء أوروبا أو باختصار «خطة مارشال»، قدمت هذه الأموال بالإضافة إلى 12 مليار أخرى سبقتها كمساعدات عاجلة من الأميركان للأوروبيين، أي إننا نتحدث عن إجمالي 25 مليار دولار أخذت أوروبا من بلدان دمرتها الحرب إلى الوضع الذي نراها عليه الآن.

لقد منحت أميركا مصر منذ توقيع الاتفاقية بين مصر وإسرائيل ما يقرب من 55 مليار دولار، وإذا أضفت إليها إلغاء الديون المصرية من قبل جورج بوش الأب التي بلغت قيمتها 10 مليارات دولار، مضافا إليها بعض الدعم المتقطع هنا وهناك، فنحن نتحدث عن نحو 70 مليار دولار، أموال تساوي قيمة «خطة مارشال» بسعر اليوم، تلك الخطة التي أعادت بناء أوروبا، ولم تفعل شيئا يذكر في مصر، ترى أين ذهبت هذه الأموال؟ هل ذهبت مباشرة إلى جيوب الحكام؟ ربما لهذا السبب كانت تقديرات البعض بأن ثروة مبارك هي 70 مليارا، هم فقط حسبوا الدعم الأميركي رغم أنها «حسبة غلط»، إلا أن التساؤل ما زال قائما: أين ذهبت كل هذه الأموال؟

الأميركان ينفتحون على مصر الآن بصورة غير مسبوقة، وأنا لا أطالبهم بعدم الدعم، فقط نريد أسماء وقائمة بمن يتلقون الدعم حتى نعرف.. ونريد الشفافية. ويا سيادة الرئيس أوباما، فلوس أميركا ساعدت في إطالة عمر ديكتاتورية استمرت ثلاثين عاما، فلا نريد أموالكم لبناء ديكتاتورية أخرى.

«الشعب يريد الشفافية.. وبالأسماء من فضلك».