لا تفسد «العرس» العربي

TT

هناك من يريد أن لا يرى فيما جرى في البلدان العربية إلا ثورة من أجل الحرية والديمقراطية في أزهى صورها.

لذلك فهؤلاء لا يعجبهم انفجار العنف الطائفي والجماعات الدينية الإرهابية، وأكثر صور التزمت الفقهي، بشكل أكثر حدة بعد الثورات العربية.

من يرى أن الوحدة العربية هي طموح كل مواطن في العالم العربي، وأن ما جرى من ثورات أو «انقلابات» أو انتفاضات ضد الحكام العرب ليس إلا دليلا على توق وشوق هذه الشعوب إلى استعادة وحدتها المغدورة، ونبذ المعاهدات المذلة مع إسرائيل وغيرها، لا يسره أن يرى هذه الحروب الطائفية داخل البلدان العربية نفسها، وهذه النزاعات الإقليمية في السودان، مثلا، أو رفع أهل الجنوب اليمني شعار الانفصال عن الشمال اليمني، وسيحاول صرف نظره عن هذه الحقيقة، وسيحاول تأويلها بأي طريقة تخفيفية أو مؤامراتية.

تكرر كثيرا، وبأكثر من صيغة، من قبل أصوات عربية وغربية، أن «الربيع العربي» قد أعلن نهاية حقبة «القاعدة»، خصوصا بعد اغتيال زعيمها أسامة بن لادن، فكانت نهاية لهذا التنظيم ولفكره ولفروعه ولمن يقتدي به، بالصورة المعنوية، بقيام ثورات الربيع العربي، وبالصورة المادية، من خلال قتل أسامة. لكن الحقيقة لم تتغير، و«القاعدة»، بالمعنى الكبير والواسع لكلمة «القاعدة»، ما زالت موجودة ونشطة، وها هي تحاول السيطرة في محافظة أبين اليمنية، وها هي، وحسب التقارير الغربية وغيرها، تنشط في نهب سلاح قوات القذافي في ليبيا، وها هي تقاتل قوات موريتانيا في الصحراء الكبرى.

مسار الجماعات الجهادية لا علاقة له بما جرى في ميادين القاهرة وتعز وصنعاء، هي مسار آخر ورؤية أخرى وعالم آخر، لديهم تصورهم الخاص للمشكلة، وبالتالي حلهم الخاص.

على العكس من ضجيج شعارات الحرية، هذه الجماعات ومن يقتنع بجذرية الحل الجهادي الإسلامي، قد تجد في مثل هذه الفوضى العارمة للمجتمعات العربية فرصة سانحة لبناء القواعد من جديد واستغلال حالة الفوضى في تثبيت بعض المكاسب والحقائق على الأرض، أو على الأقل انتهاز هذه اللحظة الزمنية من أجل تكديس السلاح وبناء المخابئ والمواقع وكل ما يستلزمه العمل المستقبلي.

حتى في سوريا، ورغم الشجاعة المذهلة التي يبديها الناس هناك ضد النظام الرهيب في قمعه، ورغم التنوع الطائفي الحساس هناك، فإنه قد لا يسر كثيرا من المتعاطفين والمنحازين لثورة الشارع السوري القول بأن هناك بالفعل شبابا أو شيوخا أو جماعات دينية سنية متطرفة في بعض المدن السورية، بصرف النظر عن حجمها وتأثيرها في صفوف الثورة.

من الصعب حقا على الإنسان رؤية الصورة كاملة، من دون إعادة إنتاج لها حسب رغبته وانحيازه وعاطفته.

رأينا في مصر، مثلا، كيف تضخم الحديث بشكل عجيب عن «فلول» النظام السابق أو الأصابع الخارجية من أجل إحالة كل المشكلات التي نجمت عن انهيار النظام السابق وحدوث حالة سائلة جديدة في مصر، وبروز المشكل الطائفي وكرنفالات الجماعات الدينية والبلطجية.. إحالة كل هذه الأمور إلى أعداء وهميين من محض الخيال، وعدم الحديث بشكل أساسي عن أن المشكلات في الأساس داخلية، ولذلك كان من اللافت المقال الذي كتبه أحد أنصار الثورة المصرية، وهو الكاتب المعروف محمد سلماوي، في جريدة «الأهرام» مؤخرا عن أن هناك من يريد تحويل مصر إلى دولة أصولية وأنه يجب الانتباه إلى خطط الجماعات الأصولية السياسية بدل الإغراق في الحديث عن «فلول» النظام السابق.

الصورة ليست دائما كما تبدو لنا، أو كما نحب أن تبدو لنا، لذلك هناك فرق بين البصر والبصيرة؛ فالأولى رؤية العين، والثانية رؤية العقل والقلب!

[email protected]